رئيس التحرير
عصام كامل

رحلة الجنسية الفرنسية (2)


حين ننتقل من بلد لبلد لا نضع في حقائبنا ملابسنا وأغراضنا فقط، بل نضع فيها أيضًا ذكرياتنا لسنوات ومواقف أثرت فينا وأشخاص أسدوا لنا معروفًا يومًا ما ومنهم مسيو قنسطنتين، كان مهندسًا من أصل يونانى يعيش بمصر ويعمل بقناة السويس، ما أن علم أننى وزوجى مصريان حتى وافق على تأجير شقته بموناكو لنا، حين رآنى للمرة الأولى مددت يدى أسلم عليه فرفعها إلى فمه وقبلها كأنه يقبل أميرة فرعونية أو كأنه يقبل مصر التي اشتاق إليها، علمت كم كان عظيمًا لأنه قدر ظروفنا كشباب لمدة عشر سنوات حين تسلم الشقة مكتب عقارات ليديرها بعد رحيله واكتشف بساطة الإيجار مقارنة بأسعار الإمارة وتمنيت لو يعود إلى الدنيا ساعة واحدة لأحمل باقة زهور أهديها له في مرضه اعترافًا بجميلـه.


في السابعة صباحًا من الأسبوع الثانى من ديسمبر من كل عام ولمدة خمس سنوات كنت أصل أمام مبنى مجمع المصالح بمدينة نيس وأتعجب من كم البشر الذي وصل قبلى لتجديد كارت الإقامة الفرنسى كأنهم باتوا ليلتهم أمامه، طابور طويل من الوجوه المهاجرة حديثة العهد بفرنسا لا ترى عيناى أوله وخلفى لا تصل لآخره، وعلى الرغم من اختلاط مشاعر الضيق بالبرد الشديد فإننى لم أندم لأننى وضعت هدفًا أردت أن أصل إليه وهو الجنسية وواجباتى أؤديها من عمل وضرائب والتزام، وما أن يفتح الباب في التاسعة حتى يجرى الجميع في كل اتجاه جائعين يتصارعون على قطعة لحم لأن من سيحصل على رقم سينهي أوراقه في نفس اليوم ومن لم يوفق في الحصول على رقم عليه أن يعود غدًا، وأغلب الراغبين في تجديد كروت الإقامة يعملون وبالكاد حصلوا على يوم الإجازة.

بعد حصولى على الرقم أجلس في صالة الانتظار أراقب أحداث فيلم سينمائى بدا غريبًا أول مرة حتى تعودت عليه فهذا شاب من السنغال رفضوا إقامته لأنه بلا عمل فلا مبرر لوجوده كما ينص القانون، هكذا أعلنته الفتاة الأنيقة خلف الشباك لكنه رفض وصاح وهاج وماج وأمطرها بالشتائم مما اضطرها لطلب البوليس الذي جره خارج المبنى والعجيب أننى رأيته في "نيس" أكثر من مرة بما يعنى أنهم لم يرحلوه إما لتحايله على القانون أو لينضم لقائمة الملايين المهاجرة بشكل غير شرعي.

وآخر عربى يصرخ هذه زوجتى تعيش معى وأولادى فلم لا تحصل على أوراق ولا أعلم كيف دخلت زوجته وأولاده إلى فرنسا فالزوج يعيش على المعونات وشقته غير مناسبة لحياة أسرية فتم رفض إقامتها ولكن ليس معنى هذا أنهم سيضعونها على أول طائرة لتعود لبلدها، سيبقى الحال على ما هو عليه ولكن بشكل غير قانوى حتى يعمل الزوج ويوفر سكنا مناسبا..
نكمل الأسبوع القادم.

الجريدة الرسمية