ريجيني كارت ضاغط أم كاشف !
بمنطق أن الربيع العربي فخ وقعت فيه بعض الدول العربية من قبل قوى عظمى لأسباب مختلفة معلنة وغير معلنة، يتجلى لنا الهدف الظاهر الأوحد في وقتنا الحالي وهو تقسيم تلك الدول ذات الربيع الثوري.
فكل دولة لحق بها ذلك الخراب العربي، كان استغلال دنيء لمعاناة شعوب من ديكتاتورية حكامها، أو لنقل انتفاع دول عظمى من غضب مكبوت لدى شعوب اعتبرها حكامها «عزبة» وملكية خاصة يتحكمون في مصائر تلك الشعوب التي يحكمونها أو لنقل يملكونهم إذا جاز التعبير، بطغيانهم أحيانا، بتهميشهم كثيرا، بنهب مقدارتهم على مدى عقود في الأغلب.
وهناك أيضا السبب المعروف لأي نية مبيتة للتقسيم أو انتشار الفوضى أو الحروب الأهلية، وهي فرض وصاية الدول العظمى على تلك الدول النامية الربيعية «لاحتكار» بترول تلك الدول المنهكة بسبب حكامها، والتي يعتبر ذهبها الأسود محركًا للكيان التنموي والتقدمي للدول العظمى.
مصر.. ليست مجرد دولة في الربيع العربي، بل هي قائدة المنطقة العربية لعقود، هي حضارة آلاف السنين، منارة علم وعلماء في مختلف العلوم والميادين، هي ركيزة الدول العربية في السلام وفي الدفاع والحماية، حيث يعتبر جيش مصر حاميا للمنطقة العربية ككل وليس فقط حاميا لمصر ضد أي عدو.
ومن أجل ذلك كانت مصر مستهدفة، بل كان ربيعها على الرغم من عوامل عدة كتوحش الفقر، وضغوط كبت الحريات، وارتفاع نسبة غضب المثقفين، والتهميش الفج لعامة الشعب المسند في أصله على الواسطة والمحسوبية لمن ينتمون للطبقة الحاكمة أو ما يتبعها من قطاعات مجتمعية مميزة فقط.
على الرغم مما سبق ذكره، نجد أن استغلال مصر للدخول ضمن الربيع العربي ليس حبًا في الحرية، وتنمية مجتمع أو إعلاء للديمقراطية كما تخيلنا في بدأ الثورة، بل كان هناك هدف خسيس مبيت لتلك الدولة العظيمة، وهو إسقاط كيان مصر كدولة لها ثقلها الإقليمي.
بعد فشل الربيع العربي في مصر كان هناك خطة بديلة موضوعة لإنهاك الدولة في محاور مختلفة، وهو الإرهاب الغادر الذي يواجهه المصريون بالداخل والجيش المصر على الحدود، لكن لا ننكر أثره الواضح على حال البلد، حيث إنه أضعف مصر وأفقدها موارد الدخل، والأهم أنه أفقد مصر زعامتها الإقليمية الممتدة لآلاف السنين، وبذلك يتحقق مشروع إعادة ترتيب للقيادات الدولية في المنطقة يعمل في أساسه على تهميش مصر، وإحلال دول أخرى لا تملك مقومات مصر كجيش وشعب، لكن تملك «البترول» كوسيلة وحيدة لجعلها تحظى برضاء الدول العظمى، مما يجعلها في المقدمة كي تقود المنطقة العربية لمصير معد مسبقا، لخدمة مصالح تلك الدول العظمى «أمريكا وروسيا» ومن خلفهم الدول الأوروبية وإسرائيل بالتبعية.
ولنقل إن خط الغاز من الدول الخليجية وتحديدا من «قطر» التي استعانت «بثقل وضغوط أمريكا والاتحاد الأوروبي لتنفيذ ذلك الخط يحث يتجه غربا إلى الأراضي السورية التي هي حليف روسيا ثم يتجه شمالا إلى تركيا التي تعتبر قنطرة عبور بين مصادر الغاز في أواسط آسيا والشرق الأوسط، وهنا كانت سوريا المشكلة والعائق أمام الخط القطري المدعم من أمريكا لمواجهة روسيا «التي تحتكر تجارة الغاز العالمية» والتي يريد الاتحاد الأوروبي الخلاص من قبضتها على الغاز في المنطقة»، ولذلك تقف روسيا ضد خط الغاز القطري، ومن هنا كانت فكرة إنشاء شرق أوسط جديد متخلصين من النظام السوري الذي أبرم مسودة اتفاقية مع العراق وإيران ولبنان لمد خط غاز طبيعي، معتمد على أن إيران يملك ثاني أكبر احتياطي غاز بعد روسيا.
لخط الغاز أبعاد تدخل فيها دول المنطقة مجتمعين على اختلاف مصالحهم، والجدير بالذكر أن لخط الغاز المصري كان عاملا لإثارة الفوضى وانهيار الدولة والدخول في دوامة الربيع الثوري لتمكين الدول السابق ذكرها على مرور خط الغاز بأريحية دون وجود عائق من جيش مصري أو خط موازي مصري للغاز.
حتى يتم إسقاط مصر وإنهاكها وتشتيت وتفتيت قواها في عدة محاور، الإرهاب يطل برأسه الخبيث على الحدود وانتهاك صارخ للسيادة المصرية في سيناء، مما يصدر رسالة قاتمة عن الأمن في مصر للعالم، ويجعلها دولة غير مستقرة وغير محكمة القبضة على الأمن على أراضيها مما يجعل مرور خط الغاز لجنوب أوروبا يعاد النظر فيه وطرح بدائل.
وحتى يكتمل إحكام التضيق على مصر لإسقاطها، كانت واقعة إسقاط طائرة ركاب روسية في سيناء بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ الدولي بعد ما يقارب النصف ساعة، مما أسفر عن مقتل 224 شخصًا هم جميع الركاب وطاقم الطائرة، وانتشار شائعات بتفجيرها من داخل الطائرة بقنبلة أو من خارج الطائرة بصاروخ !
في كلتا الحالتين وقعت مصر في فخ توقف السياحة الروسية والأوروبية لمصر خاصة شرم الشيخ، مما يوقع مصر في مشكلات ندرة النقد الأجنبي وارتفاع سعر الدولار وبطالة الآلاف من العاملين في قطاع السياحة وغلق فنادق وقرى سياحية بأكملها.
وحتى تتفاقم المشكلات على مصر كانت حادثة مقتل الشاب الإيطالي «ريجيني».
ذلك الإيطالي الحاصل على دكتوراه من كمبريدج البريطانية، جاء لمصر ليعد بحثًا حول الحركات العمالية في مصر، وكان ينشر مقالات عن مصر تتعلق بالمظالم التي يعاني منها العمال في صحيفة «المنافيستو»، اختفى يوم 25 يناير في وسط البلد وعثر عليه مقتولا في إحدى طرق مدينة السادس من أكتوبر، وعلى جسده آثار تعذيب !
في البداية حاول الإعلام تصدير فكرة أن الإخوان هم من قاموا باختطاف الشاب وتعذيبه وإلقائه في الطريق لإثارة إيطاليا والرأي العام العالمي ضد مصر وحكوماتها وداخليتها التي اعتادت التعامل بذلك الأسلوب «التعذيب» للحصول على المعلومات من المقبوض عليهم، فكان القتيل الإيطالي أداة كاشفة لمدى تدني الإعلام المصري في تلفيق التهم وتغير حقائق المقدمة للمتلقين في جميع أنحاء المعمورة.
لكن خرجت علينا الداخلية متسرعة ببيان بأن مقتل الشاب كان نتيجة حادث سير!
وحين وجدت الداخلية هجوما عنيفا من الصحف الإيطالية عن كيفية كون الواقعة حادثة سير ووجود آثار تعذيب على جسد الشاب!
لذلك بعد عدة أيام أعلنت الداخلية في بيان آخر مرفق معه صور لخمسة أشخاص مقتولين في داخل ميكروباص، مدعية أنهم عصابة متخصصة في قتل وسرقة الأجانب قد تم تصفيتهم، ووجدوا بحوزة أحد أقارب المتهمين المقتولين جواز سفر ريجيني والفيزا كارد وموبايلين ونضارته الشمسية!
لم تلق بيانات الداخلية استحسانا لدى الحكومة الإيطالية، مما جعل الجانب الإيطالي يعلنها صريحة، بأنه بناء على موقف مصر في عدم القبض على قتلة الشاب سيؤدي حتما لعدم توقيع الحكومة الإيطالية لاتفاقية البحث عن البترول في مصر، بل أعلنت جمعية السياحة الإيطالية التي تضم عددًا من شركات السياحة الإيطالية الخاصة، تعليق رحلاتها، ووقف جميع أنشطتها مع مصر.
وهنا يكون ريجيني «كارت كاشف» لأساليب الداخلية المصرية التي يعلمها العالم والمصريون وتظل تنكره الداخلية والحكومات المتعاقبة لمصر، التعذيب هو السلاح الذي بات قاتلا للمصريين من قبل داخليتها داخليا، وخارجيا باستخدامه للضغط على مصر من قبل الدول العظمى.
ويصبح مقتل الإيطالي ريجيني كارت يكشف سوءة ما يحدث داخل مصر وخارجها، المتمثل في تلك العمليات المتفرقة والمنهكة لقوى مصر في وقت عصيب تتكالب قوى عظمى ومصالح عربية وتدخلات سافرة من دول تريد اقتناص الفرص وتحويل استثمارت الخليج إليها وإمداد خطوط الغاز والبترول في أراضيها مما يدر ثروات وينعش اقتصادا ويقوي مكانة إقليمية وقيادة حقيقية لمنطقة مشتعلة بحروب وفتن وانقسامات وإرهاب.