السلطة والجامعة (1)
يستغرب الكثيرون من ثورة أعضاء هيئة التدريس المنتمين إلى التيار الإصلاحى والمؤمنين بالحرية الأكاديمية واستقلال الجامعات من المحاولات الحالية للسلطة للتحكم في الجامعات عن طريق منح اختيار وإقالة القيادات الجامعية لرئيس الجمهورية ومنع مشاركة أعضاء هيئة التدريس في اختيار قياداتهم ديمقراطيًا وما يتبع ذلك من سيطرة للسلطة التنفيذية والأمن على الجامعات.
والحقيقة أن صراع السلطة للسيطرة على الجامعة بدأ منذ أكثر من مائة عام وقد يستغرب البعض إذا قلت إنه بدأ حتى قبل إنشاء الجامعة المصرية.. ومن لا يقرأ التاريخ يصعب عليه فهم الحاضر ورؤية المستقبل.
بدأت فكرة إنشاء الجامعة المصرية في النصف الثانى من القرن التاسع عشر كنتيجة طبيعية لنهضة التعليم المصرى، والتي بدأت في عهد محمد علي -رحمه الله- الذي آمن بالتعليم رغم أنه ظل أميًا حتى تعدى الخمسين من عمره قبل أن يستطيع بإصراره تعلم القراءة والكتابة...
ففى عهده بدأ إنشاء المدارس العالية بداية بمدرسة الهندسة بالقلعة والتي انشئت سنة 1816 كما ذكر الجبرتى في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار، حيث أنشأها محمد علي بالأساس لأغراض الحصر والمساحة والتي كانت الدولة الوليدة تحتاجها في مرحلة الحصر والتنظيم وتم اختيار بعض المماليك وثمانين طالبًا من الأزهر للدراسة بها مقابل كسوتهم ومنحهم أجرًا أسبوعيًا..
كان بدء تأسيس الجيش الحديث في 1820 وانتشار وباء الطاعون الذي أودى بحياة مئات الآلاف في بلد تعداده نحو المليونين دافعًا لأن يعهد للطبيب الفرنسى كلوت بك لإنشاء مدرسة الطب بأبى زعبل عام 1927، حيث كان يوجد المستشفى العسكري حينئذ ثم ألحقت بها مدرسة الصيدلة عام 1829 وقرر محمد علي بناءً على نصح مستشاريه أن تكون الدراسة في كل المدارس العالية باللغة العربية وتمت الاستعانة بالمترجمين وخاصة من الشوام لترجمة الكتب والمراجع وتم إنشاء فيلم الترجمة لهذا الغرض وعهد به لرفاعة الطهطاوى (ظلت الدراسة بالعربية في كل المدارس العليا بما فيها الطب حتى عام 1898 عندما أمر المندوب السامي البريطاني بتغيير لغة الدراسة بها إلى الإنجليزية).... وأنشأت عدة مدارس عالمية أخرى كالمعادن والزراعة وغيرها..
العامل الآخر كان بدء إرسال البعثات إلى أوروبا بدأت بإرسال فنيين إلى إيطاليا لتعلم بعض مهارات الحرف وذلك عام 1813 ثم 1816 لكن البعثات الحقيقية بدأت بإرسال 40 طالبًا إلى فرنسا سنة 1926 لدراسة الطب والهندسة والقانون والزراعة والرى والعسكرية وكان رفاعة الطهطاوى، أما البعثة أصبح عضوا فيها.... ثم تبعتها بعثة عسكرية من 70 طالبا منهم أمراء من عائلة محمد علي عام 1844 وكان من بين أعضائها علي مبارك... وكان العائدون من البعثات يوظفون فورًا في دواوين الحكومة بعد التنظيم الإداري لها في ثلاثينيات ذلك القرن.
وكانت التقلبات السياسية التي نتجت عن طموحات محمد على في إنشاء إمبراطورية مصرية مستقلة على إنقاض الدولة العثمانية والتي أدت إلى تكاتف الدول الأوروبية ضد محمد علي للقضاء على قوة مصر الناشئة وإجباره على توقيع معاهدة لندن 1840، والتي كانت بمثابة إعلان استسلام غير وجه مسار النهضة المصرية، وأغلقت بعض المدارس العالية وزادت الديون حتى وصلت إلى 70 مليون فرنك ونالت الشيخوخة من محمد علي فاتفق أبناؤه على عزله بداية عام 1848 وتولى إبراهيم باشا الحكـم، وهو مريض بالسل وتوفي بعدها بعشرة أشهر (توفي محمد علي في أغسطس 1849) وخلفه ابن أخيــه طوسون عباس حلمي الأول الذي لم يكن لديــه رؤيــة إصلاحيـــة وحاول التقشف بإغــلاق المدارس والكتاتيب وخلفه محمد سعيد باشــا عام 1854 الذي لم يغير تعليمه في فرنسا من إيمانه بأن "أمة جاهلة أسلس قيادة من أمة متعلمة" وأكمل نفس السياسة فألغى ديوان المدارس ومدرسة المهندسخانة 1854 وظل يغلق المدارس حتى توفى عام 1863 وليس بمصر غير مدرسة الطب ومدرسة العربية إلا أنه كان يهتم بمدارس الأرساليات والبعثات الأجنبية، حيث كان عصره هو عصر الأجانب في مصر.
كانت النهضة التعليمية الثانية في عصر الخديو إسماعيل ابن إبراهيم باشا (1863-1879) رحمه الله.. وكان إسماعيل قد أرسل في بعثة إلى فرنسا فاطلع على المدنية الحديثة وآمن بمبادئ الثورة الفرنسية من الحرية والمساواة والإخاء وقرر أن يجعل مصر قطعة من أوروبا رغم أنه ورث مملكة مثقلة بالديون...
كان يؤمن أن تعليم كل مصرى هو السبيل الوحيد لرقى الأمة فجعل التعليم أول أولوياته فأعاد ديوان المدارس وجعل عليه علي مبارك وتم وضع أول قانون للتعليم في تاريخ مصر وأنشئت المدارس الابتدائية الأميرية في كل أرجاء مصر وأعيد فتح المدارس العالية وفي عهده بدأ وضع نواة الجامعة بعد أن جمع على مبارك ناظر ديوان المدارس عددا من المدارس العالية بسراى درب الجماميز عام 1868 وأنشأ معملا للفيزياء والكيمياء وأول قاعة للمحاضرات في تاريخ مصر كما تم السماح بالتعليم العالى للبنات بإنشاء مدرسة السنية الثانوية وعادت البعثات إلى أوروبا وخاصة فرنسا..
وكان التعليم في كل المدارس مجانًا وداخليًا إلى أن الضغوط الاقتصادية حتمت فتح قسم خارجى بمصروفات تحدد حسب قدرة الطالب مع بقاء القسم الداخلى مجانًا.. فكان عصره حقا هو عصر التعليم حتى عزله بعد خلافه مع السلطان العثمانى والدول الأوروبية ويعتبر عزله عام 1879 هو بداية السيطرة الأجنبية الكاملة على مصر وهو أول من نال لقب خديو بقرمان من الباب العالى وأول من حصل على فرمان بالحكم الذاتى لمصر ومع تولى ابنه توفيق أهمل التعليم وأصبحت المدارس تغلق لعدم الحاجة إلى خريجيها وبعد فشل الثورة العرابية وبدء الاحتلال البريطانى لمصر.