الحركة ومضادات الدولة
لكل حركة أو منظمة سرية أو علنية أدبياتها وثقافتها، وبالتالى الرؤى التى تتحكم فى دينامياتها على أرض الواقع، وغالباً ما تكون هذه الأدبيات مضادة لفكرة الدولة ومشروعها على الأقل وفق التعريفات المعاصرة للدولة، فالحركة احتكارية بالضرورة ولها مزاعم عن كونها معصومة أو بمعنى أنها الناجية من النار سواء كانت الفرق المتناحرة سبعين أو ألفاً.
ثقافة الدولة التى يكون جذر المواطنة أساسها استيعابية أو كما تسمى ذات قدرة على الامتصاص والتمثل، حتى لو كان النسيج الديمغرافى معقداً وغير متجانس، بعكس الحركة وهى ذات دينامية طاردة غير المؤمنين بها والذين يطبقون قاعدة عسكرية اسبارطية قديمة هى التنفيذ أولاً، أما المناقشة فقد لا تتاح لأن هناك من ينوب عن الجميع فى التفكير والحلم لكن الجميع ينوبون عنه فى السجن والقتل وسائر أنماط العقاب.
ورغم أن الصهيونية كحركة وبالتالى كمنظمة بدأت سرية غيرت من عنوانها عندما "تأسرلت"، وتحولت إلى دولة فإن ثقافة الحركة لاتزال تسيطر على كل تفاصيلها، والاسم الجديد الذى أطلقته تسيبى ليفنى على حزبها وهو "الحركة" ليس جديداً على الإطلاق أنه تذكير بمرحلة ما قبل الأسرلة وبالتالى ما قبل الدولة، لهذا يتبدد عجب أى مراقب للأداء المتناقض فى الدولة العبرية إذا أدرك أن الحركة باقية فى صلب الدولة، بل هى الاحتياطى الذى يُستدعى فى اللحظات الحرجة .
وعمليات الاغتيال ونسف البيوت ومطاردة الناشطين، والإفراط فى استخدام القوة ضد الأطفال والمدنيين العزل هى من إفرازات ثقافة الحركة، حيث لا نجد فرقاً بين ما يقوم به المستوطنون من خلع الأشجار وحرقها والاعتداء المباشر على المزارعين الفلسطينيين، وبين ما كانت تقوم به منظمات من طراز "الهاغاناه" و"شتيرن"، وهناك من الجنرالات المتقاعدين أو الذين شكلوا أحزاباً فى "إسرائيل" رضعوا الحليب الأول من تلك الحركات.
وهذه الظاهرة ليست حكراً على الصهيونية، فكل أيديولوجيا مسلحة تسعى إلى الهيمنة على الدولة هى من تلك الثقافة التى تنتمى إلى ما قبل الدولة، فالدولة مثلاً لا يمكن أن تكون ميليشيا أو فئة سياسية تصبغ بلونها النسيج كله، حتى فى الحالات التى تصل فيها أحزاب إلى الحكم بواسطة صناديق الانتخابات وليس بعيداً عنا المثال الألمانى حيث كانت النازية بشكل ما تتذرع بالديمقراطية وبأنها من نتاجها.
وقد كتب الكثير حتى الآن وبمختلف اللغات عن الفارق بين النظام والدولة، وأن الخلط بينهما لن يكون فى النهاية لمصلحة الدولة، لأنها ستصبح عرضة للتفكيك وبالتالى الزوال بحيث يشغل الفراغ الذى تتركه عصابات أو ميليشيات أو تنوب الفوضى عن كل الأطراف لكى ينتهى الأمر إلى احتراب وطنى ومن ثم إلى انتحار أهلى.
لكن صلة الحركة بالدولة مسألة مسكوت عنها لأسباب كثيرة، منها ما نعلمه ومنها ما يمكن لنا أن نحزره بواسطة القرائن والحيثيات، والميديا المتصهينة أو مدفوعة الأجر لا تقترب من هذا الخط الأحمر.
لكن ما نخشاه ويتوجب التحذير منه هو أن تمارس بعض الحركات السياسية ذات الجذر الأيديولوجى بث مضاداتها ضد الدولة، لأن الدولة هى لجميع مواطنيها، وتغتنى بالتنوع ويختبر التاريخ قدرتها على الامتصاص والتمثل، فهى بعكس الحركة التى غالباً ما تعانى عسر هضم وغثيان سياسى فهى كما قال عنها سارتر أشبه بأفعى البوا التى تختنق بما تبلعه، فإما أن تلفظه أو تموت به.
نقلاً عن الخليج الإماراتية