رئيس التحرير
عصام كامل

الحقيقة.. وكشف مقتل «ريجيني»


تروي كتب التراث أن إحدى الأمهات من مكة أرسلت ابنها، ذا السنوات العشر، إلى بغداد؛ طلبًا للعلم، وأوصته ألا يكذب أبدًا مهما حدث، وأعطته أربعمائة درهم لنفقته، وبينما هو في طريقه إلى بغداد خرج عليه قطاع طرق وسألوه هل معك مال؟ قال نعم أربعمائة درهم، فسخروا منه وقالوا له أتهزأ بنا، انصرف.

ولما استكمل الصبي طريقه خرج عليه رئيس العصابة، وسأله أمعك مال؟ فرد عليه: نعم.. أربعمائة درهم. فأخذها اللص، وسأل الغلام: لماذا لم تكذب عليَّ حينما سألتك؟ فرد الغلام لأنني عاهدت أمي ألا أكذب على أحد. 

وهنا قال اللص: عجبا لك يا غلام، تخاف أن تخون عهد أمك وأنا أخون عهد الله، ولا أخاف منه.. خذ مالك يا غلام لقد تبت على يديك، وأخذ يبكي، ويقول لأتباعه: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. فبكى أتباعه وقالوا: إذا كنت قد تبت وأنت زعيمنا فنحن أولى بالتوبة منك.

ربما تكون هذه القصة «خيالية»، خاصة وأنها منسوبة إلى أكثر من شخص. لكن لا يمكن إغفال دلالتها، والعبرة والعظة منها: «الصدق منجاة». 

في مقابل الحكاية السابقة، درسنا قصة «سرحان والذئب»، مفادها: «لا أحد يصدق كذابًا»، حتى لو صَدَقَ هذا الكذاب في إحدى المرات.

هل ثمة علاقة بين هاتين القصتين وما قيل عن مقتل الشاب الإيطالي في مصر، الذي أثار ردود أفعال دولية واسعة؟

«جوليو ريجيني» اختفى من شوارع القاهرة في 25 من يناير الماضي، وعثر على جثته في الثالث من فبراير الماضي، وعليها آثار تعذيب، وصفتها والدته أمام البرلمان الإيطالي بقولها: «وجدتُ شرور العالم على وجه ابني».

بينما كتب وزير الخارجية الإيطالي، باولو جنتيلوني، على حسابه بموقع «تويتر»: «إيطاليا تُصر.. نريد الحقيقة». وقال أمام البرلمان: «إذا لم يطرأ تغير في المسار- الذي تتخذه السلطات المصرية- فإن الحكومة مستعدة للتصرف، واتخاذ إجراءات ستكون فورية وملائمة».

ما الذي أوصل الأمور إلى هذه الدرجة؟ ومَنْ له مصلحة في ذلك؟ وهل تورطت أجهزة أمنية -كما يتردد- في مقتل «ريجيني»، وترفض الاعتراف بجريمتها، أم أنها لم تتورط، لكنها لم تتوصل- إلى الآن- إلى الجاني الحقيقي؟ وماذا يحمل فريق المحققين المصريين خلال توجهه إلى روما؛ لمناقشة التحقيقات التي تجرى بشأن مقتل ريجيني؟

بداية فإن الأجهزة الأمنية أدانت نفسها بنفسها، ولو بدون قصد، أو بحسن نية، عندما أصابها «إسهال التصريحات»، وللأسف كلها تصريحات «متخبطة»، أو متضاربة.. فهناك أكثر من مسئول أمني خرج علينا مؤكدًا أن «ريجيني» لم يكن خاضعًا للمراقبة الأمنية، بينما أكد آخرون عكس ذلك، لكنهم شددوا على أن هذا لا يعني أن الأجهزة الأمنية قتلت «ريجيني».. «يكاد المريب أن يقول خذوني»!

«كدب مساوي ولا صدق منعكش»، هكذا يقول المأثور الشعبي، لكن يبدو أن أجهزة الدولة لا تجيد تطبيق هذا المثل، بدليل أنها سرَّبت للصحفيين معلومات تفيد بأن «ريجيني» ربما قُتل لأنه كان يمارس «شذوذًا جنسيًا ساديًا»، قبل أن تنفي ذلك.. ثم ظهر «شاهد العيان» مع «أحمد موسى»، واتجهت الأنظار كلها إليه، في انتظار ما سيدلي به من معلومات «ساحقة ماحقة» عن قاتل «ريجيني».. لكن الغريب أن الرجل أكد- في تحقيقات النيابة- أنه «ما شفش حاجة»، وكان «عاوز يخدم البلد»، والأغرب أن النيابة «أخلت سبيله»، دون «قرص ودنه»، ولم توجه له أية اتهامات، ولو حتى «إثارة البلبلة، وتكدير الأمن العام»!

«الصمتُ أفضل أنباء من الكذبِ».. فاستمرارًا لهذا التخبط، والفشل في إدارة الأزمة، انتشر خبر لـ«جس النبض» مفاده وقوف عصابة متخصصة في «خطف الأجانب»، وراء مقتل «ريجيني»، وقال المتحدث باسم الداخلية اللواء أبو بكر عبد الكريم، في مداخلة هاتفية مع «خيري رمضان»، إن «الجناة اصطحبوا الشاب الإيطالي لأحد البنوك، بالمعادى وأجبروه على سحب مبلغ 10 آلاف دولار من حسابه».. «أسمع كلامك أصدقك، أشوف تعذيبك أستعجب».

الداخلية «جات تكحلها عمتها»، فلم تكتفِ بـ«العك» السابق، وإنما أصدرت بيانًا في 25 مارس الماضي، قالت فيه إن الشرطة عثرت على حقيبة «ريجيني» وبها جواز سفره، بعد اشتباك مع تشكيل عصابي «تخصص في انتحال صفة ضباط شرطة، واختطاف الأجانب، وسرقتهم بالإكراه»، وكأنها تشير إلى وجود علاقة بين هذه العصابة ومقتل «ريجيني».. وعندما رفض مسئولون إيطاليون هذه الرواية، عادت الداخلية وأكدت أنها لم تربط بين «تصفية أفراد هذه العصابة ومقتل ريجيني»، وأن البحث عن الجاني ما زال قائمًا.

وما زاد الوضع سوءًا، وجعل أصابع الاتهام تتوجه أكثر إلى تورط الأجهزة الأمنية في الحادث، أن الداخلية- كما يؤكد بعض الحقوقيين- لها سجل حافل بـ«الكذب»، و«الإنكار»، و«التضليل»، وعدم الاعتراف بجرائم التعذيب أو الاختفاء القسري، إلا بعد تدخل منظمات حقوقية، محلية ودولية.. مستشهدين بما حدث لـ«خالد سعيد، وسيد بلال، وغيرهما».. كما أن اعتراف الأجهزة الأمنية بوجود أكثر من 150 من المختفين في سجونها- بعد نفيها علمها بهم- دليل قوي أعتقد أن السلطات الإيطالية لن تغفله، أو تتعامى عنه عند البحث عن مقتل أحد مواطنيها.

أيها السادة، إن الأسرة «المحترمة» هي التي لا تتستر على انحراف وجرائم أحد أفرادها.. بل إن العكس هو الصحيح.. فـ«أمير المؤمنين» عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- عندما جلد «ابنه»؛ لأنه «شرب خمرًا»، زاد من احترام الناس له، حتى من أعدائه.. لذا لابد أن يعلم الجميع أن أي تأخر في تقديم الجناة الحقيقيين للعدالة، وعدم الاعتراف بالتقصير والتخاذل، سيؤثر «سلبًا» على مستقبل العلاقات بين مصر وإيطاليا، وربما يؤدي إلى مشكلات أكبر مع دول الاتحاد الأوروبي، ويعرضنا لأزمات أكبر من أن نتحملها حاليًا ومستقبلًا؛ بسبب مسئول لا يعي خطورة ما يفعل.

باختصار.. «الحقيقة» مهما كانت مرارتها، وقسوتها، وتداعياتها، فإن آثارها الجانبية، على المدى البعيد، أخف وطأة، وأقل تأثيرًا من التمادي في الكذب، والعيش المُفرط في الوهم والخداع.
الجريدة الرسمية