رئيس التحرير
عصام كامل

«الخرابة».. والعفريت؟


تأصلت في الثقافة المصرية ثقافة "الروببكيا".. حيث خصص المصريون سواء في الريف أو الحضر مكانا لتخزين بعض توالف الأجهزة والمخلفات المنزلية؛ بدعوى إمكانية استخدامها في المستقبل.. وبمرور الوقت أصبحت هذه الأمكنة غير آمنة، وربما صارت بيئة ملائمة للصراصير والفئران وربما للثعابين والحيات، ومكانا محرما لدخول الأطفال، ومرضى فوبيا الأماكن الضيقة.. وبدلًا من أن يسعى الناس للتخلص من تلك الأمكنة الخربة؛ فضلوا مطارة الحشرات التي تحويها..!


ولم تكن تلك الثقافة قاصرة على بسطاء الشعب وعوامه، وإنما امتدت بصورة أكبر للأغنياء.. ليس ذلك فحسب.. فقدت تأصلت تلك الثقافة في فكر الحكومات المتعاقبة، التي حينما تمتعت بسلطات "شبه مطلقة"، أسست لها في كل قطاع من قطاعات الدولة ومؤسساتها "خرابة" باتت تسكنها "عفاريت"! تلك "العفاريت" التي تشابكت مصالحها، وباتت تهيئ لنفسها كل يوم إنشاء "خرابة" جديدة لتنتج جيلا من المسئولين "الفسدة" الذين ضيعوا حق البلاد في النهضة، وحق المواطن في الحياة الكريمة الآمنة..!

وبعد ثورتين كبيرتين قام بهما الشعب للتطهير.. هَجَّت عفاريت الخرائب على الشعب؛ لتفسد عليه ثورته، وتدمر ما تبقى من مقدراته.. وأصبح ليس أمامه سوى خيارين.. إما أن يخلص مصر من "الخرائب" التي تجذرت في مؤسساتها" وإما أن يتمكن من "إبادة" العفاريت.. وبما أن إبادة العفاريت كانت هي المطلب الملح للثورة.. فقد فضل النظام الحاكم طريق الإبادة.. وبما أن للعفاريت سماتها الفريدة، التي تتمثل في قدرتها على التحرك السريع، والتواجد في أكثر من مكان في وقت واحد، فضلًا عن قدرتها على تجديد وتغيير الأقنعة بشكل مستمر.. فلم يتمكن النظام من إبادتها.. واكتفى بمطارادتها وإعادتها إلى "الخرائب" التي هَجَّت منها.. لتظل تلك الخرائب شاهدا على فساد الدولة، وتحديًا أكبر لنجاح الثورة، ومعوقا أعظم أمام كل طموحات التنمية والنهضة..!

لقد فسدت كل الثورات المصرية في تحقيق أهدافها؛ ليس لطبيعة الشعب كما يدعى البعض، لكنها بفعل الخرائب التي أنشأتها الأنظمة الحاكمة وحاشيتها؛ من أجل التمكين من الحكم والسيطرة على مقدرات البلاد.. ولم تظهر تلك الخرائب وتتوحش عفاريتها فقط في عهد مبارك ولا في حكم السادات.. وإنما بدأت إرهصاتها مع الحكم الناصرى. الذي لم تحقق ثورته المزعومة من أهدافها سوى هدفين.. أولهما الإطاحة بالملك وثانيهما طرد الإنجليز. وظلت باقى أهدافها في تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية تحمل كثيرًا من علامات الاستفهام والتعجب..! والدليل على ذلك أن ثورة يناير أضافت على أهداف 23 يوليو المطالبة بالخبز والحرية والعيش الكريم.. لتظل أهداف 25 يناير و30 يونيو دليلًا على فشل 23 يوليو في تحقيق أهدافها.. حتى أصبح الخبز والحرية مطلبين أساسيين لكل جموع الشعب المعاصر..!

إذن القضية أكبر من القيام بثورة للإطاحة بأشخاص أو رموز للفساد.. وإنما القضية تكمن في "الخرائب" التي يسكنها هؤلاء العفاريت، والتي باتت تنتج لنا كل يوم عفريتا جديدا في ثوب مختلف..! لدرجة دفعت زعيم جماعة "الإخوان" البائدة إلى الإعلان بأن مصر مليئة بالعفاريت.. وعلى نفس الطريقة صاح الرئيس السيسي قائلا بإنه كلما حاول أن يحرز تقدما في مجال ما وجد "في كل خرابة عفريت ".. وكان على الرئيس السيسي أن يعلم أنه "ما دامت هناك خرابات لا جدوى من مطاردة العفاريت"..!

ومن هنا وجب التسليم بأنه لا يمكن التخلص من عفاريت الفساد دون تطهير المجتمع من الخرائب التي أفرزتهم.. والسؤال الذي يفرضه الضمير هنا.. ما الذي أوجد هذه الخرائب وكيف يمكن التخلص منها..؟ والإجابة على أي حالة واحدة، لا تقبل المزايدة ولا التأويل، وهى القضاء على الفساد الذي أشعُر عن ثقة بأن الإجراءات التي اتُخِذَت لمحاربته لم تكن بالجدية الكافية..!

وإذا كانت الدولة جادة حقا في محاربته؛ فلابد أولًا- من مراجعة الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد والتي أعدتها الجهات الرقابية وضرورة إشراك المجتمع المدنى في وضعها وتكليفه بمهام واضحة ومحددة.. ثانيًا- الاستعانة بالخبراء والاستفادة من تجارب الدول التي حققت تقدما ملحوظا في مكافحة الفساد ولا سيما "التجربة النيجيرية".. ثالثًا- تغيير جميع القيادات التي عملت في عهد مبارك وقبل 30 يونيو، دون الاكتفاء فقط بتغيير الوزراء؛ حتى يتمكن الشعب من رؤية وجوه قيادية جديدة..

رابعًا- تشكيل لجنة من الأكاديمين لمراجعة عمل مؤسسات مكافحة الفساد وتوحيد كافة الجهات الرقابية تحت مظلة تنسيقية واحدة.. خامسًا- الاعتماد على تسكين الكفاءات في الأماكن القيادية، وخلق صف ثانٍ، والقضاء على آلية تدوير المسئولين التي كانت متبعة من عهد مبارك وهى أن الذي يفشل في وزارة يتم تعينه في وزارة أخرى..!

سادسًا- ضرورة إصدار قانون لحماية الشهود والمبلغين عن قضايا الفساد، ووضوح قنوات التشاكى والالتزام بالنزاهة والشفافية.. سابعا- العمل بالنظام الموحد للمعلومات الشخصية والمالية للموظفين، وربط المرتبات بالبيانات الشخصية للموظفين بحساب بنكى واحد.. مما يمكننا من اكتشاف الآلاف من الوظائف الوهمية في دولاب الحكومة..

ثامنًا- توحيد الحسابات المالية للمؤسسات الحكومية في حساب بنكى واحد يشرف عليه البنك المركزى المصرى والذي يمكننا من رصد أي تلاعب في أموال الدولة كما كان يحدث في عهد مبارك.. تاسعا- تغيير الطريقة التي يتم بها مراجعة المشروعات ووضع الموازنة السنوية العامة للدولة بطريقة "الموازنة الصفرية" وليس الموازنة "التقديرية" المعتادة.. عاشرًا- ميكنة الجهاز الإدارى للدولة وتقليل فرص الاحتكاك المباشر بين المواطن ومقدمى الخدمات من الحكوميين.. وضرورة الاعتماد على بطاقات تقييم الخدمات الحكومية من خلال المواطن مع إصدرات تشريعات تتعلق بالمساءلة الاجتماعية والمحاسبية..

وفى النهاية أتصور أن النجاح الحقيقى للرئيس لن يتم بتخص عام للشباب وآخر للمرأة وثالث للبيئة.. فكل هذه الملفات لا تخلو من عفاريت قادرين على إفسادها.. وإنما بالحرب على الفساد.. فربما إن تمكن الرئيس من محاربة الفساد تمكن من الخلاص من كافة العفاريت التي تفسد عليه وعلينا الحياة في الوطن الحبيب.!
Sopicce2@yahoo.com
الجريدة الرسمية