التعذيب الآمن.. دورة تدريبية للضباط
مازلت أتذكر واقعة تعذيب عبد الحارث مدني المحامي، حتى الموت في منتصف تسعينيات القرن الماضي، كان عبد الحارث ينتمي إلى التيار الإسلامي، وفجرت جريدة الأحرار قضيته وقتها، قامت الدنيا ولم تقعد، وخرج المحامون إلى شارع عبد الخالق ثروت، كان خروج المحامين إلى ما بعد أسوار النقابة حدثا جللا، أتذكر أن ضباطا كبارا كانوا منزعجين لمقتل المحامي الشاب!!
لم يكن مصدر انزعاجهم هو إزهاق روح بريئة، وإنما كان التساؤل الأهم: هل وصل بنا الحال إلى هذه الدرجة؟ هل وصل بنا الحال إلى درجة أننا فشلنا في تعذيب مواطن فسقط قتيلا؟
كان مصدر الاندهاش هو فقدان ضابط التعذيب الخبرة في التعذيب، فقد كانت هناك وسائل غاية في الإبداع، نعم كنا أصحاب مدرسة إبداعية في التعذيب؛ لدرجة أنه في بعض القضايا الدولية كانت واشنطن تستعين بالخبرة المصرية في انتزاع الاعترافات من المتهمين وفق المنهج المصري المتفرد في التعذيب.
هيييييه!!.. والله زمان.. ومثل كل شيء انهار في بلادنا، انهارت أيضًا قدراتنا على التعذيب، خاصة بعد ٢٥ يناير و٣٠ يونيو.. تغير المنهج، وبدأت الأمور تؤول إلى قليلي الخبرة، وبدأ الضحايا يتساقطون الواحد تلو الآخر، كلما أخذوا واحدًا ليعذبوه مات منهم، بعض الخبراء يُعزى الأمر إلى ضعف الإرادة لدى المواطن الخاضع للتعذيب، وبعضهم يُعزيه إلى الملل الذي يتسرب إلى القائم برسالة التعذيب.
أيًا كانت الأسباب؛ فإننا أمام عصر جديد من «التعذيب الأخطر»؛ حيث لا يضمن الواحد منا تعذيبًا آمنًا، يتعدى الأمر حدود الأمان، وهو الأمر الذي يدعونا للمطالبة بالكشف عن برامج تدريب الإخوة بالجهاز الأمني، لكى يطمئن الشعب إلى أن الوزارة توفر حدودًا دنيا لتعذيب أكثر أمانًا، فيما يمكن أن نطلق عليه «الأمان التعذيبي» على وزن الأمان النووى.
لم يتوقف الأمر عند حدود فقدان القدرة على التعذيب إلى حدود ما قبل الموت، وإنما تعدى ذلك إلى تصوير أفلام مغامرات للشرطة المصرية، تشبه إلى حد كبير قصص الأطفال عن أمنا الغولة، التي لا أعرف كيف تكون أمنا وهى «غولة»!!
وصل الأمر إلى كتابة تحريات تتشابه إلى حد كبير مع موضوعات الخيال العلمى إذا ما كتبها عم خليل العطار، وتعدى ذلك إلى التورط فيما هو أشبه بالفضيحة أمام جهات دولية وآخرها قضية ريجينى.
إذا كان الأمر يخص ميرهان حسين أو غادة إبراهيم فإنها شئون داخلية، أما إذا كان يخص شابا إيطاليًا؛ فإن هذه البلاد يعمل سياسيوها لدى الشعب، رئيس الوزراء والوزراء والبرلمان كلهم خدم لدى الشعب، الأمر ليس مثلنا، حيث يعمل الشعب خدمًا لدى كل هؤلاء، الشعب لا يساوى جناح بعوضة، ثم إن الشعب ليس على مستوى طموح الرئيس، كما قالت الأستاذة الدكتورة الداعية الإسلامية آمنة نصير.
التشكيل العصابى الذي بادر بإطلاق الرصاص على ضباط مأمورية الشرطة، وبالتالي تم تصفيته، كل من كان منتميًا إليه وصف حسب السجل المدون لدى وزارة الداخلية «نصاب»، وميزة النصابين أنهم ليسوا قتلة، وسمة النصاب النفسية أنه شخص يبدو رقيقًا، مقنعًا، وسيمًا، جذابًا، تلك هي مسوغات العمل كنصاب.. ليس من بين هذه المسوغات تعذيب وسحل وقتل وسرقة.
أضف إلى ذلك أن النصاب ذكي، بل إنه لو كان غبيًا إلى حد الحمق الممنهج؛ فإنه لا يمكن أن يحتفظ بحقيبة قتيل هو قاتله، لن أتحدث عن تفاصيل خاضت فيها مواقع التواصل الاجتماعى، وإنما سأعبر إلى مناطق أكثر أهمية من وجهة نظرى، ألا وهى الأسئلة الملحة: هل اطلع المسئولون الكبار على سيناريو التشكيل العصابى؟ هل سألوا أنفسهم عن مدى سطحية الرواية ؟ هل فكر واحد منهم في صورة مصر؟ هل فكروا في سمعة جهاز الأمن المصري؟ هل كانوا على دراية بحجم وكارثية إعلانهم الساذج؟!
أنا على يقين أن التدهور وصل إلى كتاب السيناريو، إضافة إلى اندثار عصر المخرجين الكبار، وعلى السادة المسئولين الذين «مرمغوا» سمعة مصر والمصريين أن يعترفوا أننا بحاجة إلى ورش عمل في التخيل والكتابة الدرامية والحبكة القصصية.. إننا بحاجة إلى جهود أساتذة كبار أمثال وحيد حامد وجيل الشباب.. ضباطنا بحاجة إلى دورات تدريبية في صناعة الوهم، مع صدور قرار بإلغاء كل الدورات التدريبية المكثفة في فنون الاستسهال.