رئيس التحرير
عصام كامل

اجتماع وزاري في مقابر السويس


كلما أغلق بابًا للفساد فتحت عليه أبواب، كلما رفع حجرًا وجد تحته ثعبانًا، كلما قتل ثعبانا خرجت عليه «حيات».. الفساد والبلطجة واللصوصية، كلما أبعد لصا وجد لصوصا، كلما طارد عنصرا خرجت عليه مافيا بالعشرات، لم ييأس ولم يفقد الأمل، ظل على إصراره.. صامدًا في مواجهة فساد استشرى كسرطان متوحش ينهش في لحم الوطن بلا هوادة.

ورغم قسوته في المواجهة، فإنه كان يحمل دوما في يده الأخرى كتابا للإقناع، يواجه الموظفين والعمال، يخاطب القيادات، يحاور القيادات الوسطى، يتحدث عن الوطن المنهك، عن البلد المتعب، عن الناس الذين ينتظرون أملا في الغد، عن البسطاء، عن الأمة المهددة في معركة البقاء، عن الأعداء هنا وهناك، وفي كل بقعة، في شوارعنا وحوارينا، في مدننا وقرانا، في بيوتنا وشركاتنا.

بكل اللغات حاصر الوزير أباطرة المال الحرام، حاصرهم بالإقصاء والتهميش، تخلص من أعداد كبيرة وظل يخطط للباقي، كان الرجل مندهشًا من حجم العفن الساكن في أدراج المكاتب، من حجم السرقات، من حجم المؤامرات، من حجم الصمت الكافر بالأمل، كل شيء يؤدى إلى الإحباط، كلما مد يده في سرداب أخرج عقارب سامة، كلما اقترب أكثر رأى الموحش من عالم الحيتان.

تحولت مخاطر مواجهة الفاسدين إلى مغامرة مدهشة للوزير، أصبح يهوى الاجتماع بهم قبل إطلاق سهامه، يناقشهم، ينظر في عيونهم، يتفحص دقائق ملامحهم، يبدو أن طبقة من «الصفار» هي القاسم المشترك، تغطى الوجه لا يراها إلا كل خبير، الوزير يراها بوضوح، أصبحت لديه القدرة على شم رائحتهم الحقيقية مهما غطتها عطور باريسية أو عربية، فاسدون كثيرون هربوا من المواجهة بطلب النقل أو الاستقالة.

شهور قليلة أرهقت الوزير، وأرهقت اللصوص، ظل الرجل يبحث عن فكرة جديدة، فكرة ملهمة، تطبيق غير مستخدم من قبل.. أخيرا جاءت الفكرة!!

عرض مدير المكتب على الوزير تفاصيل الافتتاح الذي ستجرى وقائعه بمدينة السويس، فكرا قليلا.. وميض الأفكار النارية يأتي بجديد، لماذا لا يصحب كل القيادات إلى هناك؟

جمع المعلومات الشخصية عنهم، معظمهم على حافة الستين، اتصل بأصدقائه ليشرح لهم آخر منصة صواريخ سيوجهها ضد اللصوص والفاسدين.

قال في الطريق إلى المدينة الباسلة، سأدعو القيادات لزيارة مقابرنا على طريق السويس، هناك سيدخلون إلى مقبرة كبيرة تخص الأسرة، سأغلق الباب ثم أعتلي مكانًا مرتفعًا مخاطبًا الجميع، مذكرًا كل واحد بعمره، ومؤكدًا للجميع أن متوسط عمر الإنسان المصرى أربعة وستون عاما، أي أن كل واحد فيكم أمامه أربعة أعوام على أقصى تقدير.. ويأتى إلى هنا.. وما أدراكم ما هنا!!

هنا لحم أكله دود الأرض، عيون ذابت من ملح الأرض، جماجم حملت أفكار الخير، وأخرى حملت الشر.. كل هذا هنا ينتظركم، وهنا لا توجد مباحث للأموال العامة، ولا أجهزة رقابية، هنا سيكون مصيركم.

سنوات قليلة أمامكم للتوبة، توبوا عن سرقة أموال الشعب، ازرعوا الأمل للأجيال القادمة، ارفعوا أيديكم عن حقوق الناس، لا تعيدوا ما سرقتموه.. ولكن فقط أوقفوا نزيف السرقة.

راقت الفكرة لأصدقاء الوزير، واعتبروها نموذجا صارخا للمواجهة بين المصير الأخير واللصوص، أيام قليلة مضت، صحف تتوقع تعديلا وزاريا، يدق جرس الهاتف، يتلقى الوزير مكالمة من رئيس الوزراء: شكرا لك يا سيادة الوزير على الفترة التي عملت فيها معنا، لقد كنت مثالا يحتذى في مواجهة الفساد، نتمنى لك حظا موفقا في عمل آخر!
الجريدة الرسمية