رئيس التحرير
عصام كامل

هذا الاستقطاب الحاد!


هذا الاستقطاب الحاد، مع أو ضد، أصبح معلما يميز مجتمعنا.. تجد ذلك ظاهرا وبارزا بأجلى وأوضح ما يكون على شبكات التواصل الاجتماعي.. وهو أمر جد خطير.. هو نوع من التصادم العنيف في الأفكار والرؤى والمواقف.. تماما - مع الفارق - كتصادم قطارين، أو حافلتين.. وهذا لا ينتج عنه إلا مزيد من الحقد والكراهية، التي تكاد تدمر المجتمع وتنسفه من أساسه.


كل فريق يتحصن في منطقه ومنطقته.. هو يرى أنه صواب محض، والآخر خطأ محض كذلك.. لا يوجد أي رابط أو مشترك بينهما، ولو كان ضئيلا، اللهم إلا العداوة والبغضاء.. الهوة بينهما واسعة.. التراشق بينهما لا يكاد يتوقف.. يسعى كل فريق إلى محو الآخر من الوجود.. لا يهدأ له بال إلا بالقضاء عليه، أو على الأقل إرغامه على الاستسلام.

تنوع الأفكار شيء مختلف.. تتفق في الأصول وتختلف في الفروع.. فيها وضوح رؤية وحرص من جانب كل الأطراف على الوصول لأفضل النتائج، المفيدة والبناءة.. هناك إيمان من كل طرف بحق الطرف الآخر في الاختلاف وإبداء الرأي.. ومن ثقافة الاختلاف تنهض المجتمعات، وتتقدم.

للأسف، ثقافة الاختلاف تكاد تكون معدومة في مجتمعنا.. انظر إلى متحاورين في أي مجتمع متقدم.. سوف تجد مع كل عبارة لأى منهما "ما أنت عارف"، كنوع من الاعتراف باحترام وتقدير الآخر.. عندنا الأمر مختلف تماما.. فكل عبارة سوف تكون مسبوقة بــ: "لا أصلك مش فاهم"، أو "مش مدرك"، أو "مش متصور"، وهكذا.. وأقل ما يقال عن هذه العبارات أنها تعبير عن انتقاص من أقدار من نتحدث إليهم.. ناهينا عن مستوى الإسفاف والابتذال الذي انحدر إليه أي حوار، أو بمعنى أدق أي تراشق.

نحن في أمسِّ الحاجة إلى مراجعة أنفسنا؛ أفكارنا، وثقافتنا، وسلوكنا.. وهذا دور التعليم، والثقافة، والإعلام، فضلا عن علماء الاجتماع.. مما يغذي ويعزز الاستقطاب الحاد في مجتمعنا، مجموعة من الصفات كشفت عنها ثورتا ٢٥ يناير، و٣٠ يونيو، من أبرزها سوء الظن الذي صار لأزمة من لوازم حياتنا، كأننا لا نستطيع أن نعيش بدونها..هذه الصفة ليست مرتبطة بالذكاء - كما يظن البعض - بقدر ما هي مرتبطة بالحقد والكراهية وضيق الأفق وعدم إعمال العقل، فضلا عن الافتقار إلى الثقة بالنفس.

والمثل القائل "سوء الظن من حسن الفطن"، لا يجب أن يؤخذ على عواهنه.. هو يمثل حالة بعينها وظروفا خاصة لا بد من وضعها في الاعتبار.. سوء الظن دائمًا وأبدا يكون فيمن تعهد فيه الكذب، أو المراءاة، أو المداهنة، أو الغش، أو الالتواء، أو الخداع، أو ادعاء شيء ليس له فيه نصيب، كأن يدعي أنه عالم وهو جاهل، أو أنه شجاع وهو جبان، أو أنه كريم وهو بخيل، وهكذا.. لأجل ذلك نستطيع أن نقول لماذا فشى سوء الظن هذه الأيام.. لأن منظومة القيم الهابطة أصبحت مزدهرة.

يقول المولى تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم" (الحجرات: ١٢)، والمعنى أن علينا أن نحسن الظن بالآخرين، وأن هناك قدرا قليلا من الظن يمكن اعتباره إثما.. وهذا القدر القليل أصبح متضخما ومتعاظما هذه الأيام.. يكفي أن تقول رأيك بمنتهى الصراحة والموضوعية والحيادية والإنصاف، في حدث، أو واقعة، أو موقف ما، فإذا بالسهام تصوب إليك من كل جانب، كأنك عدو تشكل خطرا وتهديدا للأمن القومي للبلاد.. أصحاب هذه السهام لا يعطون لأنفسهم فرصة التفكير أو الفهم أو تقليب الأمر على مختلف أوجهه.. هي لا ترى إلا ما يوافقها بالتمام والكمال.. وإذا حدث أن كان هناك اختلاف بسيط، فهو مرفوض أو غير مقبول.. هذه الحالة أعتبرها مرضا نفسيا، أو خللا عقليا، وربما تمثل نوعا من المداهنة والتملق والمراءاة لهذا المسئول أو ذاك بهدف كسب وده ورضاه.

الجريدة الرسمية