مختار محمود يكتب: جفت الأقلام.. وطويت الصحف
"1"
"الآن تأتيني الأخبار العاجلة، من خلال ساعة "أبل" التي أرتديها، وهو ما لا تستطيع صحيفة ورقية فعله".. نصا من كلمة رئيس مؤسسة "نيويورك تايمز"، مايكل جولدن"، أمام مؤتمر "wan ifra"، الذي استضافته دولة الإمارات العربية المتحدة، مؤخرا، لمناقشة التحولات التي يشهدها الإعلام.
"جولدن" لم يكتف بهذه العبارة الصادمة لصُناع الصحافة الورقية، بل تساءل: ما الذي يدفع القارئ إلى الاشتراك في صحيفة مطبوعة مقابل 900 دولار سنويًا، في حين يمكنه تصفح نفس الصحيفة بتكلفة أقل عبر الإنترنت؟ غير أنه استدرك قائلا: "ما زال للصحف الورقية عند القارئ متعة التصفح والاطلاع، بما تمثله من رصيد مهنى وثقافى، كما أنها تمنحه فرصة التحكم في وقت قراءته للموضوعات التي يُفضّلها".
"جولدن" تنبأ، بما يملكه من خبرات تراكمية في صناعة الصحافة الورقية والرقمية، أن تستمر طباعة الصحف الورقية لجيلين مقبلين، على الأكثر، داعيا في الوقت ذاته صُنّاع الصحف الورقية، إلى إعادة ترتيب أوراقهم، وإلى استقراء السوق، ومعرفة متطلبات القارئ، والعمل على تقديمها وتجويدها، وليس فرض قوالب جامدة عليها، ثم التباكى على مهنة تقترب رويدا رويدا من الانقراض!
"2"
في 15 مارس الجارى، أعلنت صحيفتا "السفير" والنهار"، وهما الأشهر في لبنان"، نيتهما الاكتفاء بالنسخة الإلكترونية، والاستغناء عن النسخة الورقية ضغطا وترشيدا للنفقات، ما دفع الصحفيين اللبنانيين إلى أن يصفوا هذا اليوم بـ"اليوم الأسود"، وفى 20 مارس الجارى، أصدرت صحيفة "إندبندنت أون صنداى" البريطانية، العدد الأخير من النسخة الورقية، لتكتفى بنسختها الإلكترونية، بعد أن تجمدت مبيعاتها عند 56 ألف نسخة فقط، وسط توقعات بأن تلحق بها كل من: "فاينانشيال تايمز" و"جارديان"، في ضربة مؤلمة وتاريخية للصحافة الورقية، التي تفقد كل يوم أرضا جديدة، يتنزعها منها حصان التكنولوجيا الجامح، الذي يختصر العالم كله أمامك على شاشة هاتف محمول أو كمبيوتر محمول.
أستاذ الصحافة البريطانى "بريان كاثكارت"، ينكأ الجراح أكثر، بتأكيده أن صحيفة "ذا صن"، واسعة الانتشار، التي توزع مليونا و800 ألف نسخة، قد تضطر إلى التوقف قريبا جدا، متوقعا أن تختفى الصحف الورقية من بلاده خلال 15 عاما!
"3"
"ليس أمامنا إلا بضع سنوات، حتى نُؤبن الصحافة الورقية، تطول أو تقصر المدة الباقية، لا يهم، لكن الأهم، هو أنه قُضى الأمر الذي فيه تستفتيان، والمجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلامُ، ففى مناطق كثيرة من العالم أُغلقت صحف، ومجلات عديدة، ذائعة الصيت".. نصا من مقال حزين للكاتب الصحافى السودانى "عادل شعيب" ينعى فيه الصحف الورقية في بلاده، وفى كل بلدان العالم، مضيفا في حسرة مفرطة: "تعبت الصحفُ في مجاراة الميديا الجديدة، أو أرهقت الفضائياتُ، ومواقعُ الإنترنت، خيالات رؤساء التحرير، ومديرى الأقسام الصحفية، أو قُل: أُثقل كاهلُها بالأيديولوجيا تارةً، أو بالوعظ السياسي والاجتماعى البارد تارة أخرى"!
"شعيب" يصرخ بكل قوة قائلا: "في كل الأحوال ينبهنا الواقع إلى أن جسد الصحيفة شاخ أمام المدّ التكنولوجى الكاسح، والذي لا يملك قلبا، أو عاطفة، أو إنزيمات في الدماغ توجد النوستالجيا، والترنح لم يصب الصحف فحسب، بل صار أيضا سمةَ لكبريات شركات توزيعها "!
إذن، ما يحدث في بريطانيا العظمى، يرتد صداه في لبنان والسودان، والعكس صحيح، والأزمة قائمة وحاضرة على المستوى العالمى، والتباكى أو البكاء على "اللبن المسكوب"، أو "الحبر المسكوب"، إن أردنا الدقة، لن يصنع حلولا، ولكنه يزيد من تفاقم الأزمة، فالصحافة الورقية أشبه بمريض موضوع على أجهزة التنفس الصناعية، احتمالات وفاته تفوق احتمالات بقائه، لا بد من حلول جادة وحقيقية وحيوية وعملية، بعيدا عن تنظير الأكاديميين، أو اقتراحات المتخاذلين والمتنطعين، وساء أولئك رفيقا!.
ربما يكون هذا ما دفع رئيس تحرير جريدة "جازيت" السعودية، "سمية جبرتى"، إلى أن تقول في كلمتها أمام مؤتمر "wan ifra"، الذي أشرت إليه آنفا: "المؤسسات الإعلامية التي تريد أن تظل على صلة وثيقة بالسوق المحلى، عليها التركيز في التنوع"، مضيفة: " التحدى الرئيسى لوسائل الإعلام يتمثل في "القيود العقلية"، أكثر مما تفرضه "قيود الميزانية".
هنا تكون "جبرتى" أصابت الهدف، بلا خجل أ ومواراة أو خداع أو تجميل للقبيح، فالأزمة تكمن، كما ذكرت" في "القيود العقلية"، التي وجب التخلص منها فورا، والبحث في آفاق أرحب، بعيدا عن: "الخبر العادى" و"التقرير النمطى" و"الحوار الكلاسيكي"، وابتكار أنماط صحفية جديدة تختلف عن المنشور في المواقع الإخبارية في اليوم السابق، وما بثته البرامج المسائية، في الليلة الماضية.
"4"
على الرغم من اقتراب انتهاء عصر الصحف الورقية، شئنا أم أبينا، إلا أن هناك ممانعة من بعض الاستراتيجيين المتخصصين في اقتصاديات الصحافة دون الاعتراف بضربة الإنترنت القاضية التي أدخلت الصحيفة الورقية في غرفة الإنعاش، فهم يرون أن الإنترنت أتاح مجالا كبيرا للصحف، والصحفيين، عبر المواقع التي أنشأتها المؤسسات الصحفية، وأن الإعلام الرقمى لا يزال تنقصه المهنية التي تؤهله لوراثة الدور الكبير الذي يقوم به الصحفيون في جلب الخبر، أو صناعة الرأى العام إجمالا، بل إن بعضهم يستدل بأن المواقع الإلكترونية لم تملك بعد مراسلين مهرة من ميادين الحياة العامة حتى يغذوا الصحف بالأخبار الموثوقة، والتقارير الرصينة، التي تفننوا في تحريرها، فيما يرى آخرون أن الصحافة الورقية ستظل باقية، لأن التليفزيون لم يُنه عصر الراديو، بل إن السنوات الأخيرة شهدت انطلاقة إذاعية مدهشة، ولكن عندما تم التحرر من "القيود العقلية" المتحكمة في صناعة الميديا الحكومية.
التحرر من"القيود العقلية"، والتخلص من كلاسيكيات الماضى، وتطويره وتجويده، والخلق والابتكار، هو ما يراهن عليه المتفائلون بإمكانية بقاء الصحافة الورقية، ويرون أنه لا يجب أن ينفصل الإعلام الرقمى عن ماضية المطبوع، ولكن علينا تطوير نموذج الإعلام الورقى لمواكبة المستقبل، وليس إلغاءه ليحل نموذج الإعلام الرقمى بديلًا عنه، وهؤلاء فقط هم من لا يتخيلون هذا العالم يومًا بدون صحف ورقية !
إن تشييع الصحف الورقية إلى مثواها الأخير ظاهرة محزنة، خصوصا بالنسبة للأجيال التي نشأت عليها، وارتبطت بها كأداة للتثقيف، فقد اختفت "النيوزويك" قبل 3 أعوام، بينما أغلقت صحيفة “سياتل بوست” مكاتبها بالضبة والمفتاح بعد أن قرأ الناس أولى افتتاحياتها قبل 146 عاما، ولم يشفع قرن ونصف القرن من الزمان للصحيفة العريقة بأن تجد من يتقدم لشرائها، وإنقاذها من الغرق في بحر الديون، وفى لحظة حزينة قال مالكها ورئيس تحريرها: “اليوم نضع الصحيفة في سريرها لتنام للأبد”.
والسؤال المؤلم: إذا كانت نقابة الصحفيين المصريين تحتفل، خلال أيام، بـ"العيد الماسى"، فهل سوف تكون هناك صحافة ورقية عندما تحتفل بعيدها المئوى؟