رئيس التحرير
عصام كامل

الموت يكتب نهاية "الغواص " بعد 40 عاما عطاء..99 قرشا اول اجر تقاضاه من الاذاعة..وضع موسيقى أكثر من «50» فيلما..."الشريعي" يسكت عن النغم المباح

الشريعي
الشريعي

 بعد عدة أزمات صحية معقدة،أسدل الموت الستار على حياة الموسيقار عمار الشريعى،اليوم،عن عمر يناهز 64 عاما،بعد مسيرة فنية حافلة،وضعته فى مصاف المبدعين الكبار.

رغم أن  الراحل.. ولد كفيفا , ولم ير الدنيا قط، إلا أنه نبغ في الموسيقى وتألق في سمائها، وبزغ نجمه بقوة خلال الـ «40» عاما المنقضية، حتى أصبح واحدا من عمالقة الموسيقى في المنطقة العربية، ولم تمنعه إعاقته من الإبحار في بحور النغم.. ليأتي لنا بأجمل الأعمال الموسيقية وأبدعها.

ولد عمار الشريعي في سمالوط بمحافظة المنيا ،وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة "طه حسين للمكفوفين" , وتخرج فيها العام 1966، ثم التحق بكلية الآداب - قسم اللغة الإنجليزية في جامعة عين شمس بالقاهرة، وتخرج فيها في العام 1970 .

تلقى عمار علومه الموسيقية ودرس التأليف الموسيقي عن طريق مدرسة "هارلي سكول الأمريكية " لتعليم المكفوفين بالمراسلة، كما تلقى علوم الموسيقى الشرقية على أيدي مجموعة من الأساتذة الكبار بمدرسته الثانوية، في إطار برنامج مكثف أعدته وزارة التربية والتعليم للطلبة المكفوفين الراغبين في دراسة الموسيقى، ثم التحق لفترة وجيزة بالأكاديمية البريطانية للموسيقى.

وبالرغم من أن عمار.. صعيدي من جنوب مصر، إلا أن بشرته البيضاء اكتسبها من جده لوالده ذي الأصول التركية، ما يشير إلى تعدد الثقافات التي نشأ في أجوائها وأثرت في شخصيته وتنوعها، فضلا عن ذكائه وبصيرته الحادة، التي أغنته عن فقدان البصر، وكذلك الترابط الأسري الذي تمتعت به أسرته .

 بزغت موهبة عمار مبكرا، واكتشفها الموسيقار  الراحل  كمال الطويل الذي كان صديقا لوالده، ولم يكن قد تعدى العاشرة من عمره، عندما ناقشه في إحدى أغاني فيلم «الخطايا» الذي قام ببطولته عبد الحليم حافظ وحسن يوسف وعماد حمدي ومديحة يسري، في نهاية خمسينات القرن الماضي.

أخذ الطفل الكفيف الموهبة وحب الموسيقى من والدته، التي وصفها بـ «الفلكلور المتنقل»، لغنائها في جميع الأحوال.. عند الفرح وعند الحزن، بل إنها حكت له أنه كان يتجاوب معها عندما كان رضيعا وخلال سنواته الأولى.

وبالرغم من حب والدته للموسيقى إلى هذا الحد.. إلا أنها أول من اعترضت طريقه، خاصة بعد وفاة والده، لإصرارها على أن يسلك طريق عميد الأدب العربي «طه حسين»، واتفق معها أعمامه وأخواله، فلم يكن من الفتى الطامح، إلا أن التحق بكلية الآداب، وأحضر لها الشهادة الجامعية بعد «4» أعوام، وتركها عندها، ليبدأ مشواره الحقيقي الذي صاغته له الأقدار.

 تنقل عمار في بداية حياته العملية بين عدة فرق متواضعة، كعازف أوكورديون، قبل أن تعرفه الشهرة، حتى جاء العام 1975، عندما لحن أغنية «امسكوا الخشب» للمطربة  الراحلة مها صبري، ثم انتقل إلى «الفرقة الذهبية» بقيادة صلاح عرام، وبعد هذا اللحن لم يطلبه سوى المخرج الراحل نور الدمرداش، الذي أسند إليه ألحان مسلسلى «بنت الأيام» و«السمان والخريف»، لتلتقطه المطربة الكبيرة المعتزلة شادية، ليصوغ لها ألحان أغنية «أقوى من الزمن».. وربما كانت تلك الأغنية صاحبة الفضل الأكبر في شهرته.

أول أجر حصل عليه عمار الشريعي.. كان «99» قرشا.. وكان من الإذاعة المصرية عن عزفه للحن أغنية محو الأمية الشهيرة، «يا أهل بلدي.. في كل مكان»، وكان ذلك في العام 1966 .

لحّن عمار  العديد من الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات، وهو يعتبرها من أصعب الأعمال، لأنها موسيقى تعبر عن وجهة نظره، بمشاركة مخرج العمل، وليس فقط مجرد تصوير للدراما المرئية على الشاشة، ومن أبرز أعماله في هذا السياق: موسيقى فيلم «البريء» وفيلم «أحلام هند وكاميليا».

وهو من ألهب مشاعر المصريين والعرب في مسلسل «رأفت الهجان»، كما تألق في تأليف موسيقى وأغاني مسلسل «هو وهي» مع سعاد حسني وأحمد زكي.

وبالرغم من نرجسية الموسيقار  الراحل محمد عبد الوهاب واعتزازه المطلق بنفسه.. إلا أنه من فرط إعجابه بموهبة عمار.. قال له:«أنا وأنت روح واحدة في جسدين».. ولم يقلها لأحد غيره، وكأنه منحه الكلمة السحرية، التي فجرت المزيد من مكامن الموهبة المتقدمة، وليكمل مشوار عبد الوهاب، الذي كان يتنقل بين القامات الموسيقية والثقافات المختلفة كراقص باليه، لا تشعر بخطوته على المسرح، وليكمل عمار بقية الرقصة وحده.

وينسب لعمار قوله:«يجب أن نخلق تيارا جديدا في الأغنية العربية»، وهو من اعتبر سيد درويش.. الزلزال الموسيقي الأول في الفترة التي ظهر بها في «مطلع القرن العشرين»، وأن أهم توابع هذا الزلزال وأولها محمد عبد الوهاب.

كما لم ينس عمار حتى رحيله فضل كمال الطويل عليه، الذي كان أخا وصديقا له، ولا بليغ حمدي، الذي أقرضه الأورج الأول من نوعه في مصر في ذلك الوقت، ليبدأ حياته العملية.

تعاون عمار الشريعي مع أجيال عديدة من المطربين والمطربات، فكما أسلفنا كانت البداية مع مها صبري ثم شادية ثم المطربة الجزائرية وردة، كما تعامل مع كل من عفاف راضي والمغربية سميرة سعيد ونادية مصطفى وأنغام والتونسية لطيفة والسورية أصالة نصري، ومع هدى عمار وغادة رجب وعلي الحجار ومحمد الحلو ومدحت صالح ومحمد ثروت ومحمد منير وماهر العطار وحسن فؤاد وطارق فؤاد.. كما تألق مع المطرب الكويتي الكبير عبد الله الرويشد.

عُرف عمار بوضع الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية والمسرحيات، فتجاوزت أعماله السينمائية «50» فيلما، والتليفزيونية «150» مسلسلا، والإذاعية أكثر من «20» عملا إذاعيا و«10» مسرحيات غنائية استعراضية.

 

من أشهر أعماله الموسيقية في الأفلام :

«الشك يا حبيبي»، «البريء»، «البداية»، «حب في الزنزانة»، «أرجوك أعطني هذا الدواء»، «أيام في الحلال»، «آه يا بلد»، «كتيبة الإعدام»، «يوم الكرامة»، «حليم».

 

ومن أبرز أعماله الموسيقية في التليفزيون :

 

 مسلسلات:«الأيام»، «بابا عبده»، «أديب»، «النديم»، «وقال البحر»، «دموع في عيون وقحة»، «رأفت الهجان»،. «ليلة القبض على فاطمة». «أرابيسك»، «العائلة»، «الراية البيضا»، «حدائق الشيطان»، «بنت من شبرا».

 

  ومن أهم مسرحياته :

 

«رابعة العدوية»، «الواد سيد الشغال»، «يمامة بيضا».

 

فرقة الأصدقاء

 

 في العام 1980.. كون عمار الشريعى  فرقة " الأصدقاء" ،  التي ضمت كلا من :  منى عبد الغني وحنان وعلاء عبد الخالق، حاول من خلالها مزج الأصالة بالمعاصرة، وخلق غناء جماعي حديث،، يناقش هموم المجتمع ومشاكله في تلك الفترة.

 

اهتم بالأطفال

 

أولى عمار الشريعى  اهتماما كبيرا بأغاني الأطفال، وشارك في احتفالات أعياد الطفولة لمدة «12» عاما متصلة، كما اعتنى باكتشاف ورعاية المواهب الجديدة مثل: منى عبد الغني، حنان، علاء عبد الخالق، هدى عمار، حسن فؤاد، ريهام عبد الحكيم، مىّ فاروق، آمال ماهر، وأحمد علي الحجار.. وغيرهم.

وتولى عمار منذ العام 1991 وحتى العام 2003 وضع موسيقى وألحان احتفالات أكتوبر، وعين في العام 1995 أستاذا غير متفرغ بأكاديمية الفنون المصرية.

واهتمت بإبداعاته.. العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في المعاهد والكليات الفنية في مصر وخارجها، من بينها رسالة دكتوراه من جامعة السوربون بفرنسا.

 

 نهر يتدفق

 

تعددت إبداعات عمار الشريعي في جميع الاتجاهات.. حيث قام بتأليف كونشرتو لآلة العود والأوركسترا ومتتالية على ألحان عربية معروفة وعزفها مع أوركسترا عمار السيمفونية في العام 2005 .

كما تعاون مع شركة «ياماها» اليابانية في استنباط «3» أرباع التون من الآلات الإلكترونية، ومع شركة إميولتور الأميركية في إنتاج عينات من الآلات التقليدية والشعبية المصرية والعربية، وابتكر العديد من الإيقاعات والضروب الجديدة، وأعاد صياغة وتوزيع عشرات المقطوعات الموسيقية والأغنيات، وأسهم مع مؤسسة دانسنج روتس الأمريكية في إنتاج برنامج جود فيل، والذي يقدم نوتة موسيقية بطريقة «برايل»، وأعد وقدم منذ العام 1988 برنامجا إذاعيا لتحليل وتذوق الموسيقى العربية بعنوان «غواص في بحر النغم»، كما كان يعد ويقدم برنامج «سهرة شريعي» على فضائية دريم المصرية.

 

 جوائز وأوسمة

 

أمام هذه العبقرية المتدفقة.. كان لابد للعديد من الجوائز والأوسمة أن يحصل عليها الراحل عمار الشريعي، فقد عرف طريقه إلى الجوائز الكبرى مبكرا حيث  نال :

 

- جائزة مهرجان فالنسيا - إسبانيا.. العام 1986 .

- جائزة مهرجان «فيفييه» ، سويسرا - العام 1989 .

- وسام التكريم من الطبقة الأولى من عمان العام 1992 .

- وسام التكريم من الطبقة الأولى من الأردن العام 1994 .

- العديد من جوائز جمعية نقاد السينما والمركز الكاثوليكي للسينما ومهرجان الإذاعة والتليفزيون عن الموسيقى التصويرية من العام 1977 حتى العام 1990 .

- جائزة الحصان الذهبي لأحسن ملحن في إذاعة الشرق الأوسط لـ «17» عاما متتالية.

- جائزة الدولة للتفوق في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة.. العام 2007 .

- وسام التكريم من الطبقة الأولى للمرة الثانية، من سلطنة عمان العام 2005 .

 

 عبقرية لن تتكرر

 

قالت عنه صحيفة «عكاظ» يوما:«أما عمار الشريعي .. فهو مدهش جدا، وعبقرية لن تتكرر.. ولا يبدو أن أحدا يشبهه في شيء، ودلائل ذلك أشياء عديدة.. منها: موهبته الفذة في مجال الموسيقى، تعامله مع الكمبيوتر في الاستوديو الخاص به بالقاهرة.. وكونه الناقد المتألق الجهيد الذي شرح الكثير من الأعمال الموسيقية من خلال برنامجيه الإذاعي «غواص في بحر النغم».. والمرئي «سهرة شريعي».

وتابعت:«هناك ميزة لابد من التعريج عليها في  خصائص الشريعي.. وهي حديثه الجميل المليء بالفكر والنباهة، فضلا عن حلاوة وجمال الأسلوب، وهو مع الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب يأسران الناس بسحر أحاديثهما».

 

   ذكريات.. ومحطات

 

 قال الشريعي في أحد حواراته الصحافية: إن والده كان إقطاعيا، ولكنه درس في جامعة السوربون في باريس، وتعلم مبادئ جديدة عليها، منها :

الاهتمام بالفقراء ومعاملة الأجراء بشكل جيد، وعندما جاءت ثورة يوليو، أحب عبد الناصر وأيده، بالرغم من إقطاعيته، كان محبا للفنون والأدباء، وكان صديقا لفريد الأطرش وكمال الطويل، والأخير هو الذي قدمه للوسط الفني.

وأضاف : «أردت التخصص في الموسيقى بشكل احترافي، فتعلمت بالمراسلة مع جامعة أميركية متخصصة في الموسيقى لفاقدي البصر، وانتظمت سنوات عدة، وحصلت على شهادة في التأليف الموسيقي.

وعن دراسته وتخصصه في اللغة الإنكليزية بالجامعة.. قال:«أردت الاهتمام بالإنكليزية ودراستها لمعرفة كل جديد، وللتعامل مع الأجانب والإبحار في عالم الكمبيوتر.. وتغلبت على جميع العقبات، حتى أجدتها تماما».

واستطرد : "وعن طريق الإنكليزية.. دخلت في عالم الكمبيوتر، واستطعت إدخال جمل وأصوات عربية في الكمبيوتر حتى إنني تعاونت مع جهة أميركية في اختراع برنامج موسيقي من خلاله،  سمي باسمي، وسهل علىّ تطويع الألحان باللغة العربية."

 

 موقف صعب

 

تذكر الشريعي موقفا صادما، تعرض له في مستهل حياته العملية، عندما طردته مطربة مغمورة لأنها.. «رفضت أن يعمل وراءها.. واحد مابيشوفش».

 هذا الموقف على صعوبته.. إلا أنه مثل نقلة نوعية في بداياته، وانطلق بعدها ليتعاون مع المطربة الراحلة مها صبري، ثم جاءت الانطلاقة الحقيقية عندما لحن للمطربة الكبيرة شادية أغنية «أقوى من الزمن»، حيث حققت الأغنية نجاحا كبيرا، وبدأ اسم عمار الشريعي يتردد بقوة في الوسط الغنائي.

ولاشك أن اتجاه عمار الشريعي إلى وضع الموسيقى التصويرية ونجاحه في ذلك..  يشكل أهم أركان عبقريته وهو يتذكر البداية قائلا:

«طرح اسمي لوضع موسيقى تصويرية لفيلم سينمائي، فسخر البعض متسائلين: كيف يضع كفيف موسيقى تصويرية لفيلم «مصور»؟ ويومها قلت للمخرج: سأتكفل بتسجيل الموسيقى على نفقتي الخاصة، وإذا نجحت أحصل على حقوقي، وإذا فشلت فسأتحمل التكاليف وحدي، وسألت المخرج عن أحداث الفيلم، ثم وضعت الموسيقى على الحوار، ونجح الفيلم، وقدمت بعد ذلك موسيقى أكثر من «50» فيلما، آخرها فيلم «حليم».

يعتز الشريعي بموسيقاه التصويرية في فيلم «حب في الزنزانة» الذي جمع بين عادل إمام وسعاد حسني، ويعتبرها من أفضل أعماله، وأحبها إلى قلبه.. وفيلم «أرجوك اعطني هذا الدواء» وفيلم «البريء» لأحمد زكي، حيث " كنت أبحث عن موسيقى تعبر بصدق عن الانكسار الداخلي لللبطل المخدوع والمهزوم".

الجريدة الرسمية