رئيس التحرير
عصام كامل

خدعوك فقالوا: «لا تعليق على أحكام القضاء»!


محكمة النقض- أعلى سلطة قضائية في البلاد- ذكرت في حيثيات حكمها بإلغاء الحكم بإدانة 149متهما بالإعدام، ومدان بالسجن 10 سنوات، في قضية «اقتحام قسم شرطة كرداسة وقتل أفراد الشرطة والتمثيل بجثثهم» عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة، في 14 أغسطس 2013، إن الحكم الذي أصدره المستشار ناجي شحاتة، رئيس محكمة الجنايات، «عرض واقعة الدعوى وأدلتها في إجمال وإبهام، لا تتوافر به أركان الجرائم التي أدانهم بها، ما ينبئ بأن المحكمة لم تحط بالدعوى عن بصر وبصيرة».


وأضافت المحكمة- في حيثياتها- أن الحكم «استند إلى التحريات في إدانة المتهمين، وأهملها في براءتهم، وأخطأ في تطبيق القانون، وأصدر الحكم على بعض المتهمين دون حضور محام لهم أو انتداب آخرين».

«لا تعقيب على أحكام القضاء». كم من شخص خرج علينا ليقول هذه الجملة التي تترددعلى كثير من الألسنة، عقب كل حكم قضائي في قضية أثارت اهتمام الرأي العام؛ لدرجة أن معظم الناس- من المثقفين والعامة- باتوا يعتقدون أنها «نصًا دستوريا» ثابتًا، أو «مادة قانونية» راسخة.. وللحقيقة فإن هذه الجملة لم أعلم في أي مناسبة قيلت، ومَنْ هو الشخص الذي وضع البذرة الأولى للفتوى بحرمة التعليق على أحكام القضاء؟!

ما تعلمناه، وتربينا عليه- وهو الأقرب إلى المنطق الصحيح، والديمقراطية الحقة- أن كل شيء قابل للانتقاد والتقييم طالما كان ذلك في إطار موضوعي، ويُسهم في معرفة المجتمع للحقيقة، وكان بعيدًا عن «شخصنة» القضايا، ولم يتعرض إلى شخص القاضي الذي أصدر الحكم.. كما أن من حق وسائل الإعلام أن تناقش الأحكام القضائية المثيرة للجدل، والتي تمس مصالح الشعب، كتلك المتعلقة بالتصالح مع رجال الأعمال الفاسدين، وحبس وسجن بعض المتظاهرين، أو الغارمين والغارمات...إلخ.

ومن العجب أن نمنع «التعقيب على أحكام القضاء»، بينما نسمح للبعض بـ«التطاول على الأحكام الإلهية» كإعدام القاتل، وقطع يد السارق، ورجم الزاني... بزعم حرية الرأي والتعبير، أو بدعوى تجديد الخطاب الديني؛ ليتواكب مع الحياة المدنية الحديثة، أو ما تنادي به بعض منظمات حقوق الإنسان، التي تغض الطرف عن الإنسان الفلسطيني، والعراقي، والبورمي، والأحوازي!

نعلم تمامًا أن بعض القضاة تضيق صدورهم بالتعليق الإعلامي على الأحكام التي يصدرونها، أو بالإعلام الذي يكشف سلبيات أو انحراف أحد أفراد السلطة القضائية، ويصبون جام غضبهم على الصحفيين والإعلاميين.. بينما لا يتورعون عن الإشادة بنفس الإعلام الذي يشيد بإنجازاتهم، ويبرز نشاطهم، ويُعلق إيجابًا على أحكامهم، ويتبنى قضاياهم.. إلخ.

كل الاحترام والتقدير نُكنه لمنظومة القضاء- هذه حقيقة لا تقبل التشكيك- لكن لا يمكن إغفال أن القائمين على هذه المنظومة «بشر» وليسوا «آلهة»، وقاضي البشر قد يتعرض للخطأ، أو النسيان، أو يُكره على إصدار حكم ما.. وما فعله المستشار طلعت عبد الله- النائب العام في عهد محمد مرسي- ليس ببعيد عنا، ويؤيد منطقنا، وسلامة مقصدنا، وصحة استدلالنا.

إن نقد بعض الأحكام القضائية، والتعليق عليها- من فقهاء القانون والمتخصصين- يتفق مع سلامة المنطق، كما يتفق مع الرسالة الإعلامية في إخبار المجتمع بالحقيقة من معظم جوانبها، بل ربما يؤدي التعليق على الأحكام إلى إزاحة الستار عن مزيد من الفساد، أو تورط أشخاص جدد في القضية، أو كشف مؤامرة تحاك ضد البلاد والعباد..

وإلى الآن لم أقف على نصٍ دستوري، أو مادة قانونية «تمنع، أو تُجرم نقد الأحكام القضائية أو التعليق عليها». بل أرى أن النقد والتعقيب على بعض الأحكام- دون شخصنة القضية، أو التعريض بالقاضي- هو نوع من «الرقابة الشعبية»، خاصة وأن الأحكام تصدر وفقا لمواد الدستور، وفي أعلاها جملة: «حُكم باسم الشعب».. فكيف يصدر الحكم باسم الشعب ونمنع أحد أفراده بالتعليق عليه؟

وما يؤيد مسلكنا أن هناك تعددية وتدرج في مراحل التقاضي، ما يدل على صون الأحكام التي ربما تحمل في حيثياتها خطأ ما. وإلا ما كان هناك داع للاستشكال، أو الاستئناف، أو النقض. بل لما كان هناك داعٍ لوجود محامين يتولون الدفاع عن المتهم.
ثم وهذا هو الأهم أن التعليق على بعض الأحكام القضائية في وسائل الإعلام، خاصة المرئية، كشف عن وجود «أبرياء» اُتهموا ظلمًا في بعض القضايا، ودخول السجن دون ذنب أو جريرة.. وهذا ما نبغيه معشر الصحفيين والإعلاميين.

لقد نصت المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء، والأفكار، وتلقيها، وإذاعتها بأية وسيلة كانت، دون تقيد بالحدود الجغرافية».

بل إن الدستور المصري، السابق والحالي، لم يُجرم التعليق على أحكام القضاء، إذ نصت المادة (65) من دستور 2014 على أن: «حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبيرعن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر». وهي ذاتها نفس المادة (47) من دستور 1971، ولكن بزيادة: «في حدود القانون، والنقد الذاتي والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني».

فإذا كنا «حررنا» هذه المادة الدستورية من «الشماعة» التي قد يتخذها البعض وسيلة للقمع وتكميم الأفواه، وحجب الحقائق، وإرهاب الصحفيين والإعلاميين بالتلويح لهم بسيف القانون.. أما آن لنا أن نحرر عقولنا من القيود التي يحاول البعض فرضها علينا؟
الجريدة الرسمية