هل نزل الوحي على مكيافيلي في خَمَّارة يَنِّي؟!
هو كتاب الزعماء المُقَدَّس، ولا كتاب غيره قولا واحدًا.. أتحدث عن كتاب "الأمير" لمكيافيلى.. ربما لا يعرف الكثيرون عنه سوى أنه الكتاب الذي أرسى ورَسَّخ نظرية الغاية تبرر الوسيلة، وقدَّمَ حزمة نصائح للأمير أو الحاكم، باتخاذ وسائل بالغة الوضاعة والانحطاط والخسة لتحقيق غايته في حماية العرش.
المفاجأة أيها السادة.. أن مكيافيلي ليس على هذه الدرجة من الخسة والنتانة.. توقف معي للحظة أمام ما قاله الرجل.. هو يطلب من الأمير أو الملك أو الزعيم الجالس على العرش، أن يكون ثعلبا وسَبْعًا.. أي خبيثا وجبارًا.. خبيثا لمواجهة طمع الطامحين للحكم، فكل من هو في دائرة القصر تملؤه الرغبة في الجلوس على العرش أو على الأقل يكون صاحب القول النافذ حتى على الأمير.. لهذا ينبغي على الأمير أن يتعامل بكل الذكاء الذي يتخطى حاجز الخبث بالمكر والحيَل في مواجهة هؤلاء في تلك الدائرة الصغيرة.
أما فيما يتعلق بالدولة فلا بد أن يكون الأمير أسدًا.. يلجأ إلى كل قوته وجبروته مهما بلغت قسوتها "أي الوسيلة".. من أجل حماية الحكم والدولة "أي الغاية".
في تقديري أن مكيافيلي رجل على حق، ومذاكر، وفاهم وجارِش ملحة دوائر الحكم، وخاصة الرِّمَم المقربين من الأمير أو الحاكم.. ذلك أن الهدف من قوله الغاية تبرر الوسيلة وتوضيحها بكلامه المذكور أعلاه عن وجوب أن يكون الأمير ثعلبا وسبعا.. هدفه كما يقول هو بعظمة لسانه: حماية الأمير من"النصابين"!!! لأن السلطة في كل العصور وكل مراحل التاريخ هدف للنصابين، ولابد من حمايتها منهم، وهنا يصبح من الشرف والأخلاق أن تتخذ كل الوسائل القذرة لتحقيق الغاية النبيلة وهي تخليص السلطة والبلد من النصابين.
وأنا لا مؤاخذة أضم صوتي لصوت المعلم مكيافيلي، لا سيما ونحن نعيش حالة مقاربة لما تحدث عنه الرجل، وصرت على قناعة بأن النصابين هم الخطر الداهم على الباشا الأمير، ويصبح من حقه السير على سنَّة سيدنا مكيافيلي وأن يتغذى بالنصابين قبل أن يتعشوا به.. وإن لم تصدقني.. أقدم لك مقارَبَة لما أقول في الحكاية التالية:
كان القرد من أنشط المروجين لروايات قوة وجبروت وشجاعة ملك الغابة الأسد.. ظن حيوانات الغابة أن القرد يحظى برعاية وحماية الملك مكافأة لصنيعه الذي أسهم في توطيد أركان عرشه.. شعر القرد بذلك فكان يمشي في الغابة مرحًا كأنه يخرق الأرض ويبلغ الجبال طولا، لا يتحدث إلا بكل التحقير والسباب في مواجهة الجميع.. تمر الأيام ويكتشف حيوانات الغابة مبالغات القرد، وأن ما أشاعه لم يكن أكثر من تُرَّهات وأكاذيب، وأنه لا يشغل أي مساحة في اهتمامات ملك الغابة، وسرعان ما انقلبت حالة الخوف منه إلى مسلسل مستمر من السخرية والاستهزاء به حتى صار أضحوكة الغابة.. كاد الحزن يقضي على حياة القرد.. بيد أنه قرر ألا يستسلم، وظل يبحث عن حل إلى أن اهتدى إلى حيلة يسترد بها هيبته بين أهل الغابة..
ذهب إلى الأسد ذليلا يبكي، فسأله: ماذا بك أيها القرد؟ بصوت منكسر قال: جلالتك تعلم ما صنعته للترويج لك والدور الذي لعبته في تثبيت أركان عرشك.. قال الأسد نعم.. قال القرد: كنت مرهوب الجانب من كل حيوانات الغابة وكانوا يقابلونني بكل التبجيل والاحترام لأن مقام احترامي من مقامكم، إلا أنهم انقلبوا عليَّ وأوسعوني سخرية وسبابا، وهذا لا يليق بأحد أشد المحبين للملك والمسبحين بحمده والمحسوبين عليه.. قال الأسد: وما المطلوب مني أيها القرد؟ قال: تمثيلية سهلة، نلعبها أنا وجلالتك..
سأله الأسد كيف؟ قال: دعني أربط رقبتك بحبل.. قاطعه الأسد بزئير خفيف تعبيرا عن الغضب وقال: هل جننت أيها العبيط؟! طأطأ القرد رأسه وقال: حاشا لله يامولاي، هو مجرد تمثيل.. ملعوب سنلعبه على الأغبياء ويشربونه كالعادة.. قال الأسد: أكمِل وماذا بعد ربط الحبل في رقبتي؟ قال القرد: سوف أسحب جلالتك وأدخل بك خمارة "يَنِّي" أكبر خمارات الغابة حيث يسهر الحيوانات، ثم أكَبِّل يديك ورجليك بالكلبشات، وتنام تحت قدمي، حيث أجلس أنا على كرسي البار أشرب كأسين في هدوء، والمشهد بحد ذاته يكفي لتوصيل الرسالة وأداء الغرض حتى أسترد كرامتي التي هي من كرامتك..
وافق الأسد وترك القرد يسحبه حتى دخلا الخمارة ثم كبله بالكلبشات، في مشهد أذهل الجميع، وجلس القرد يشرب الخمر حتى لعبت برأسه.. شعر الأسد أن التمثيلية أدت الغرض، لكن القرد لم يفك قيده الذي بدأ يؤلِمه، تململ ملك الغابة وتطلع إلى القرد الجالس واضعا ساقا فوق ساق وبيده الكأس وناداه: ياقرد.. لم يرد.. كرر الأسد النداء: يا قرد.. نظر القرد إلى الأسد بغضب شديد ثم ركله بقدمه قائلا: اسمي المعَلِّم قرد يا كلب.
فيما يبدو أن مكيافيلي كان من رواد خمارة يَنِّي، وضرب كأسين مع القرد، فنزل عليه الإلهام ليكتب واحدًا من أخطر كتب السياسة في تاريخ البشرية.