رئيس التحرير
عصام كامل

معهد واشنطن: «داعش» يستهدف المعارضة التركية

تنظيم داعش الإرهابي
تنظيم داعش الإرهابي

رغم العلاقات الغامضة التي تجمع بين تنظيم «داعش» الإرهابي وتركيا، خاصة بعد سيطرة التنظيم على مساحات واسعة من أراضي سوريا والعراق الملاصقة لتركيا، فإن أنقرة أصبحت تعاني ويلات الإرهاب الذي يكون الخاسر الوحيد فيه الشعب الأعزل.


ويقول مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، سونر چاجاپتاي، إن «داعش» يستغل انقسام الشعب التركي بين مناصر ومؤيد لحزب العدالة والتنمية، مشيرًا إلى أنه بعد أن حقق حزب العدالة والتنمية انتصارًا في الانتخابات النيابية في الأول من نوفمبر 2015 التي نال فيها 49.5% من الأصوات، أثبت عن دوره القيادي في نظامٍ ذي حزبٍ مسيطر على غرار حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي يحكم جنوب أفريقيا منذ العام 1994.

وأضاف في تقرير نشر بمعهد واشنطن أن المؤتمر الوطني الأفريقي لا يزال يتمتع بشعبيةٍ تتخطى 60% من شعب بلاده، خلافًا لحزب العدالة والتنمية الذي لا تتخطى شعبيته نصف الشعب التركي، في حين يعارض النصف الآخر أجندته السياسية بشراسة، وتلك الخاصة بزعيمه الرئيس رجب طيب أردوغان.

وفي انقسام الشعب التركي بين مناصرٍ لحزب العدالة والتنمية ومعارضٍ له، قد بدأ تنظيم "داعش" في استغلال هذا الشعب من جهة اليمين، لتقابلها روسيا بالمثل من جهة اليسار، وتشكل هذه الدينامية تحدّيًا للاستقرار الداخلي التركي، وسيتطلب من الولايات المتحدة الأمريكية اتخاذ خطوات ذكية وحذرة في صنع مواقفها السياسية.

انتقلت تركيا إلى النظام الديمقراطي المتعدد الأحزاب من خلال انتخاباتٍ حرة وعادلة في العام 1950، وكان يضم هذا النظام حتى العقد الأخير أربعة أركان سياسية أساسية وهي: حزب اليمين المعتدل وغالبًا ما يكون في الحكم، وحزبٌ قومي من اليسار المعتدل وغالبًا يكون في المعارضة، وحزبان أصغر حجمًا يمثّلان الأطراف القومية المحافِظة والإسلامية، وغالبًا ما يتحالفان مع كتلة اليمين المعتدل.

وفي هذا الاصطفاف، لطالما ناصرت كتلة اليمين المعتدل اقتصاد السوق الحرة والسياسات الخارجية المؤيدة للغرب والفصل المعتدل للدين عن السياسة، أما كتلة اليسار المعتدل المتمثلة في تركيا العلمانية التي بناها مصطفى كمال أتاتورك، فلطالما دافعت عن الفصل القاطع بين الدين والسياسة، وعن سياسة عدم التدخل في شئون الشرق الأوسط.

أما بالنسبة للكتل الأصغر، فيُعتبر القوميون المحافظون من مناصري الفصل المعتدل بين الدين والسياسة، وفي الحرب الباردة، تحالفوا مع الولايات المتحدة ضد عدو الأتراك التاريخي، روسيا، إلا أن القوميين المحافظين، ومنذ انتهاء الحرب الباردة، باتوا من المعادين العلنيين للولايات المتحدة والغرب.

وروجت الكتلة الإسلامية من جهتها إلى السياسات الخارجية المعادية للولايات المتحدة اعتبارًا منها أنه على تركيا أن تكون قوةً مسلمةً مستقلةً تجذب القوة من أصولها العثمانية عوضًا عن الانطواء أمام الغرب، أما من الجانب السياسي، فلطالما سعى الإسلاميون إلى دور أوسع للمسلمين السنة في السياسة والسياسات الخارجية والتعليم.

وبين العامين 2001 و2002، انهارت أحزاب اليمين المعتدل وسط أسوأ أزمة اقتصادية شهدتها البلاد في التاريخ المعاصر. ونشأ بعدها حزب العدالة والتنمية الذي تمكّن من جمع أشلاء الكتلة الإسلامية والكتل الأكبر التابعة لليمين المعتدل، ووصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بحصوله على 34.3% من الأصوات في العام 2002، ليجمع بذلك ضعف الأصوات التي نالها سلفه الإسلامي حزب الرفاه.

ورأي التقرير أنه نظرًا إلى علاقة تركيا المتوترة بـ «داعش» وروسيا، تعرض البنية السياسية التركية، التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية، البلاد إلى المزيد من الانقسام واحتمال العنف بين الصفوف المساندة والمعارِضة للحزب، أي بين فريقين مدعومين من الدولة الإسلامية وروسيا تباعًا.

ففي الواقع، قد بدأ التنظيم باستغلال هذا الانقسام عبر أربع عمليات انتحارية، يونيو 2015 في ديار بكر؛ في 20 يوليو 2015 في سوروج؛ في 10 أكتوبر 2015 في أنقرة؛ وأحدثها في 12 يناير 2016 في ساحة السلطان أحمد في إسطنبول.. وفي العمليات الثلاثة الأولى، استهدفت الدولة الإسلامية تحركاتٍ معارضة من تنظيم الأكراد المعارضين للحكومة وناشطي السلام واليساريين والعلويين.

وفي هذه العمليات التي أدت إلى مقتل 139 شخصًا وجرح أكثر من 600، أظهرت الدولة الإسلامية تركيزًا استراتيجيًا على التحركات والمواطنين المعارضين للنظام بغية إلحاق الضرر بالمعارضة، وكان 86 شخصًا من قتلى عملية أنقرة الـ 102 من الطائفة العلوية التي تشكّل 10 إلى 15% من الشعب التركي بكامله، حتى في الهجوم الانتحاري في ساحة السلطان أحمد، أظهرت "داعش" وعيًا استراتيجيًا يستهدف منطقةً – المدينة القديمة- تعجّ بالمساجد والمحال التجارية والمطاعم، لكن يقلّ فيها الأتراك ويكثر السياح. ففي الواقع كان الضحايا الـ 11 في عملية يناير من سيّاحًا من الجنسية الألمانية.

ورأى معهد واشنطن أنه إذا كانت استراتيجية "داعش" تستهدف معارضي حزب العدالة والتنمية بحق، فقد تشهد تركيا في المستقبل عمليات انتحارية أخرى ضد الأجانب والعلويين والأكراد واليساريين والاشتراكيين والليبراليين، وقد يعزز هذا الانتقاء النظر إلى التنظيم على أنه يعفي مساندي حزب العدالة والتنمية الذي يشكل نصف الشعب التركي، وبالتالي الحكومة التركية، ومن تداعيات هذه الظاهرة تأجيج الغضب في صفوف الأتراك المعارضين من حزب العدالة والتنمية وسياساته وازدياد حدّة المحاولات لإظهار ضعفهم وتفاقُم الانقسام المحلي.

وأضاف المعهد أنه إذا كان "داعش" قادر على الاستمرار في شن الهجمات على الأهداف المعارضة، سوف يقوم الروس بالعكس- واضعين تركيزهم علنًا على أعضاء حزب العدالة والتنمية وممتلكاتهم. وقد كانت هذه سياسة الكرملين منذ إطلاق النار الذي أسقط طائرةً روسية تحلّق في المجال الجوي التركي في 24 نوفمبر.. ففي 28 نوفمبر على سبيل المثال، عزمت روسيا انخراط ابن أردوغان في تجارة النفط مع داعش.

وشكلت هذه الاتهامات غصنًا تعلقت به الصفوف المعارضة واعتبرتها إثباتا، ولا شك في أن تعاطف المعارضة التركية مع روسيا- ومعاداتها لحكومة أردوغان- واضحة، على سبيل المثال في الاتهام الذي وجهه النائب في حزب الشعب الجمهوري المائل إلى اليسار، والذي قال فيه إن حزب العدالة والتنمية يساعد الدولة الإسلامية في إدخال الأسلحة الكيميائية إلى سوريا، وقام إيرديم بهذا التصريح في 14 ديسمبر في مقابلة مع وكالة الأنباء التابعة للحكومة الروسية "روسيا اليوم".

وفي الوقت عينه، مدت روسيا يد المساعدة للمعارضة الكردية في تركيا، إذ دعت صلاح الدين دميرطاش، قائد حزب الشعوب الديمقراطي الداعم للأكراد، إلى موسكو في 23 ديسمبر، وخلال زيارة دميرطاش لروسيا، انتقد هذا الأخير الحكومة التركية لإطلاقها النار على الطائرة الروسية، أما من الجهة السورية، فقد بدأت روسيا بتأمين الأسلحة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وهو حزب حليف لحزب العمال الكردستاني المسيطر على الأراضي السورية طوال الحدود التركية، ما يشكّل تهديدًا للسلطات التركية.

ويعود بنا الانقسام التركي الحالي بين يمين ويسار إلى أحداث مروعة من السبعينات، عندما اندلعت حرب أهلية بين اليسار المتطرف المدعوم من الاتحاد السوفيتي والفصائل القومية التابعة لجناح اليمين المتطرف، أودت بحياة الآلاف في الشوارع، ومع استهداف الدولة الإسلامية للأتراك المعارضين ودعم روسيا لهم، قد تؤدي جهود الدولة الإسلامية وروسيا لاستغلال الانقسام التركي إلى زعزعة السلم الأهلي، وهذه المرة بين يمين متطرف يغلب فيه الإسلاميون ويتسم براديكالية الدولة الإسلامية من جهة، ويسار متطرف يسيطر عليه حزب العمال الكردستاني وحلفائه- حتى لو لم يبلغ التوتر مستويات السبعينيات.

أما من منظار حزب العدالة والتنمية للسياسة الخارجية، وعلى الرغم من التحديات المزدوجة التي يفرضها نظام الأسد- والتي تسعى أنقرة إلى إبعادها منذ عام 2012- ومن الوجود الشرس لـ "داعش" طوال حدودها مع سوريا والعراق، لا يزال الحزب يرى تركيا كقوة إقليمية مستقيلة، تُوائم الغرب أو تخاصمه بحسب الحاجة.

ففي الواقع، تركيا قادرة على دمج ميولها اليميني المتوسط إلى التعاون مع الغرب بالمقاومة الإسلامية لهذا التعاون، فتشكل تركيا حليفًا أساسيًا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، خصوصًا في سياق حرب الولايات المتحدة على الدولة الإسلامية، لذلك يمثّل الوضع السياسي الحالي في تركيا معضلة حقيقية لواشنطن، ومع انقسام المجتمع التركي من المنتصف، سوف تظهر توترات جديدة على الرغم من ثبات نظام السيطرة الحزبية، ومن هذا المنطلق، يتعين على الولايات المتحدة التركيز على التخفيف من هذه التوترات من أجل المساهمة في تعزيز الاستقرار في دولة حليفة لا غنى عنها.
الجريدة الرسمية