رئيس التحرير
عصام كامل

التدين «المغشوش»


من الملاحظ أن لدى الكثيرين من المسلمين في مصر حرصًا شديدًا على أداء العمرة مرة أو أكثر كل عام.. هؤلاء لا يكتفون بعمرة واحدة في العمر، والبعض منهم يتباهى بأنه أدى العمرة عشر مرات أو أكثر.. وإذا تحدثت مع أحدهم أو بعضهم، قالوا إن هذا يعطيهم زادًا إيمانيًا وروحيًا هم في أشد الحاجة إليه في مواجهة الشدائد والأزمات، وطالما لديهم المال، فلماذا لا يقومون بذلك؟


إن مجرد الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة يذكرهم بالخليل إبراهيم وابنه إسماعيل (عليهما السلام) كما يذكرهم بهاجر رضى الله عنها في لهثها وبحثها عن الماء من أجل إسماعيل، وهذا كله كفيل بتجديد إيمانهم.. ثم أن زيارتهم قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) هو تعبير عن محبتهم له، ومحاولة للتاسى به.. أقول أفلحوا إن صدقوا.. حتى ولو كانت نياتهم صادقة (وأرجو الله تعالى أن يأجرهم عليها)، فأرى -والله أعلم- أن الأولى والأجدى أن تنفق هذه الملايين على الفقراء والمحتاجين -وما أكثرهم- أو تنفق في بناء مستشفيات وتجهيزها، وأظن أننا في أمس الحاجة إليها، أو المساعدة في إنشاء مدارس كجزء من عملية تطوير المنظومة التعليمية، أملا في النهوض بمصر.. وهذه مهمة العلماء، أن ينبهوا ويلفتوا أنظار الناس إلى أن ثمة أولويات ضرورية، خاصة في هذه الظروف الصعبة، وإن هناك أمورًا مقدمة على أمور أخرى، وهكذا..

نظرة على المساجد في أوقات الفروض وهى ممتلئة، وتعجل المسلمين بالذهاب إليها لأداء الفريضة حتى لا تفوتهم تكبيرة الإحرام، يشعرك بشيء من الاطمئنان على مصر والمصريين.. ونظرة على المساجد في صلاة الجمعة وامتلائها عن آخرها لدرجة أن الصفوف المتراصة بأعداد كبيرة خارجها قد تفوق من هم داخلها، يمنحك إحساسًا بالرضا عن هذا الشعب الطيب المتدين.. ونظرة على هؤلاء المصلين الجالسين وهم يستمعون إلى آيات القرآن تتلى عليهم وهم في حالة من الاستغراق و"الهيمان"، والتمايل بالرءوس يمينا وشمالا، وعبارات الإطراء للقارئ تنساب على ألسنتهم، أقول كل هذا يدعوك إلى الاقتناع الكامل بأن البلد بخير وأنه في أيدٍ "أمينة"..

هؤلاء موجودون ومنتشرون في المصالح الحكومية والوزارات المختلفة.. مع ذلك، يتساءل الإنسان: لماذا الفساد منتشر، ومصالح العباد معطلة، وقيم العمل مهدرة، وخصوصيات الناس معتدى عليها، وإتقان العمل أصابه مرض عضال، والعدل أصيب في مقتل، والكيل مطفف، والبضاعة مغشوشة، والأمانة دخلت في نفق مظلم ولا عودة؟ ادخل أي وزارة من الوزارات لحاجة لك تريد قضاءها، سوف تجد أناسًا يدل محياهم على الطيبة والصلاح، والتقى والورع.. "الزبيبة" تعلو الجباه، وربما تأخذ "السبحة" مكانها بين الأصابع.. لكنك سوف تفاجأ بأن طلبك أمامه عشرات العقبات، والسبب أنك لم تقرن الطلب بـ"الزيت" المناسب(!)

نحن إذًا لسنا بصدد تدين حقيقى، وإنما نحن أمام تدين "مغشوش".. فما السبب يا ترى؟ هل هو فقدان الشعور بدوام مراقبة الله، وأنه سبحانه مطلع عليهم وسوف يحاسبهم؟ هل هو الغفلة والاغترار بطول الأجل؟ هل هو القدرة على التهرب وعدم الوقوع تحت طائلة القانون؟ هل هو غياب المساءلة والمحاسبة؟

للأسف، وجدنا من يتخذ من مظاهر التدين "المغشوش"، فرصة للهجوم على الإسلام ذاته.. كما وجدنا أيضًا من يستغل قضية تجديد الخطاب الدينى، أو مسالة حرية الإبداع، كى يهيل التراب على التراث الإسلامي كله.. شخصيًا لست أرى مانعًا من مناقشة التراث، لكن شريطة أن تتوافر لدى هؤلاء الأدوات اللازمة والضرورية للتعامل معه؛ مثل اللغة العربية وأساليبها، أسباب النزول، المحكم والمتشابه، العام والخاص، المطلق والمقيد، علوم الحديث، فقه السيرة، وهكذا..

تحضرنى الآن عبارة سمعتها في الستينيات من القرن الماضى من أحد طلاب كلية الشريعة والقانون بالأزهر.. هذه العبارة تقول: "إن هذا الدين ليس حكرًا على أحد، لكنه ليس نهبًا لكل أحد".. إن الإسلام ليس دين كهنة أو كهنوت، وليس هناك من يطلق عليهم رجال دين، وإنما هناك رجال علم، وهؤلاء هم الأقدر والأجدر أن يتكلموا في الإسلام، وأن يوضحوا ويبينوا، خاصة أن هناك قضايا كثيرة تحتاج فعلا إلى شرح وبيان..
الجريدة الرسمية