أنا أم هو.. في الثانوية العمية !
حجرا رحى، دخلت بينهما مرتين مع أبنائي، لكن هذه الثانوية العمية أدخلها مع أصغر أبنائي وأنا ضعيفة السيطرة، ربما لأني تجرعت ضغوطها عدة مرات فوهنت الإرادة مني، أو لأني عانيت من تخبط سياسة وزارة التربية والتعليم بما يكفي لجعلي أفقد الأمل في تطور تلك الوزارة.
نعم تفننت وزارة التربية والتعليم ومن خلفها حكومات مختلفة، على مدى عقود، بأن تجعل تلك السنة سنة ثقيلة كئيبة محطمة للأسر والطلاب، لا بداية حياة جديدة كان يجب أن يملأها الأمل والتفاؤل والحرص على التحصيل الجامعي الذي من شأنه أن يغير مجرى حياة الطلاب ومن خلفهم قد يغير وضع أسرهم بالتبعية، ولا تخفى نية تلك الوزارة الموضوع أجندتها من الحكومات المتعاقبة في إلهاء الأسر المصرية، ولنكن أكثر توصيفا لشغل الشعب المصري عامة عما يواجهه من مشكلات اقتصادية وإخفاقات وتجاوزات رجال حكوماته، بل يتخطى الأمر لبُعد الشعب عن السياسة وقراراتها وجعله منحصرا في دائرة التعليم والدروس وخاصة الثانوية العمية.
نعم، أنا من حدد جدول مواعيد الدروس اليومي، بمشاركة ابني برأيه في الجدول، ولا أنكر أنه يبرع في تغيير ذلك الجدول كل أسبوع!
هو من يتكاسل عن حضور الدروس، وأنا من يقوم بالاعتذار للمدرسين عن عدم حضوره الدرس معتذرة بمرض أو سفر أو إهمال.
بالطبع، أعترف بأني من اخترت المدرسين بناء على معرفة سابقة بهم، وذلك بسبب تعلم أبنائي الأكبر سنا مع هؤلاء المدرسين، لكن ابني له نظرة مخالفة في خبرات هؤلاء المدرسين، وبالتالي هو حريص على تغييرهم كل فترة متعللا بأن هناك الأفضل الذي لا أعرفه!
ابني لا يجيد الحفظ، لذلك تجنب القسم الأدبي، ولأنه لا يحب الرياضيات لذلك رفض دخول قسم علمي رياضة، ومن الطبيعي أن يلتحق بقسم علمي علوم كخيار أخير، على الرغم من أنه لا يعلم أي كلية من خلال ذلك القسم قد يكون له ميول لدخولها!
أنا وهو في حالة فوضى فكرية ونفسية وعاطفية أيضا!
هو يكسر كل ما أضعه أنا، وأنا أرفض كل ما يريد هو تغييره، هو يعلم أنه يفتقد الخبرة في التعامل مع تلك السنة الكبيسة على حياتنا، وأنا أعلم أنه متمرد فاقد البوصلة، ولا يعرف هل سيجد ضوءا في آخر نفق الثانوية العمية سيراه في النهاية أم لا!
أشفق عليه ويشفق عليّ، نتخبط في إرضاء بعضنا البعض، ونتفنن أنا وهو في تعكير الجو العام لأسرتنا الصغيرة، هو بالرفض الدائم لكل ما له علاقة بالمدرسين والدروس، وأنا بمحاولة الضغط المستميتة عليه لحضور تلك الدروس كأنها جرعة دواء طعمها كالمر، لكن أملا في الشفاء والنجاة من تلك الحفرة المسماة "الثانوية العمية".
هي "ثانوية" بمعنى ليست ذات أهمية محورية في حياة طلابنا، ولكن الأهم مرحلة التعليم الجامعي وما يفرز عنه من شخص بالغ قادر على الإضافة في سوق العلم والعمل.
هي "عمية" لأنها لا ترى حال الطلاب ومن خلفهم أسرهم لتشمل شعبا بأكمله إذا جاز التعميم، فهي تغير أولويات الأسر من مأكل ومشرب وكساء إلى دروس وملازم ومراجعات، فقد تجعل رب الأسرة يستدين لتكملة تلك السنة "العمية" في طلباتها، وقد تجعل أسرا تتفكك بسبب إلقاء اللوم على بعضهم البعض حين ظهور النتيجة، وقد تضغط على طالب لتجعله ينتحر محاولة يائسة منه للخلاص من ضغوط تلك السنة!
قد يكتشف أولياء الأمور في نهاية تلك السنة أنهم وابنهم الطالب هم حجرا الرحى، وما يتم طحنه وسحقه هي علاقتهم ببعضهم البعض، فبدلا من الحب والحنان والحوار، نجد القسوة والشدة والأوامر، كما نجد المقابل دائما الرفض ومحاولة كسر تلك القيود الخانقة المدعوة "دروس".
فبعد أسبوع شاق من المحايلة والمحاولة والإرغام والشدة في جعله يحضر الدروس، أجدني أفقد علاقتي بابني، وأجد أن تلك السنة اللعينة لا تستحق أن يكتئب ذلك البرعم الجميل الذي على وشك أن يتفتح ويصبح شابا رائع الفكر حسن الطبع قوي الشخصية، بسبب ضغوط وزارة "عمية" لا تهتم بالصحة النفسية للطلاب وجعلت من موادها وعلومها ودروسها ومدرسيها قتلة لآمال شباب الغد.