العدل والعلم والعمل
أربعة حروف بسيطة تتشكل منها ثلاث كلمات خفيفة تمثل أضلاع مثلث نهضة الأمم.. الأضلاع الثلاثة أولها وأطولها وأهمها هو العدل، وهو الضلع الذي يمثل القاعدة، فلا يمكن أن تبنى دولة سوية مستقرة دون هذه القاعدة، ولم يكذب من قال إن العدل أساس الملك، فبالعدل وحده يتحقق الاستقرار، وتحت مبدأ العدل تأتى الكثير من الحقوق الأساسية للمواطنين من المساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص وتطبيق القانون على الجميع وعدم التفرقة بين المواطنين للجنس أو اللون أو الرأى أو العقيدة أو الأصل أو غير ذلك من أسباب التمييز.
هل يمكن أن يتحقق الاستقرار في وطن تنتشر فيه الكراهية والحقد بين مواطنيه؟ هل يمكن أن يحس مواطن بالرضا وهو يرى من هو أقل منه كفاءة وجهدا يغرف من المال العام غرفا، بينما يجبر هو على العمل أناء الليل وأطراف النهار ثم لا يجد في النهاية ما يسد به جوع أطفاله؟ هل يمكن أن يتحقق الاستقرار وبعض المواطنين يظنون أنهم يعملون في أجهزة سيادية -لا أدرى من أعطاها تلك السيادة وعلى من تكون هذه السيادة- لها كل الحقوق ولديها حصانة عدم المحاسبة عند مخالفة القانون حتى ترى المنوط بإقامة العدل أو الحفاظ على القانون هو أكثر من يخالفه أمام الجميع متباهيًا بعدم تطبيق القانون عليه؟
ما هو شعور خريج كلية الحقوق بتقدير امتياز الذي يرفض طلبه للالتحاق بسلك القضاء بينما يقبل طلب من نجح بعد كل التوصيات بتقدير مقبول لمجرد أنه ابن لأحد العاملين بالسلك القضائى، وهل يمكن لهذا المتفوق الذي رفض طلبه أن يكون فيما بعد إنسانا سويا مؤمنا بهذا المجتمع أم سيكون ناقما عليه؟
أتذكر إحساسى المرير عندما أعلنت نتيجة بكالوريوس الطب والجراحة ورأى أهلي عدم فرحتى، وعيناى تترقرق بالدموع رغم حصولى على الدرجة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وكان حزنى لأنى كنت معتادًا أن أكون من بين العشرة الأوائل إلا أننا فوجئنا بالدفع بأكثر من عشرين من الزملاء –جلهم من أبناء الأساتذة والكبار- كان منهم من هو خارج المائة الأوائل حتى العام قبل الأخير، وإذا بنا نفاجأ بحصولهم على درجات شبه مستحيلة تعنى أنهم منحوا الدرجات النهائية في غالبية الامتحانات العملية والشفوية والنظرية الثمانية عشر والتي خضناها على مدى أربع سنوات ليتمكن من استدراك ما فاته والتقدم علينا...
أتذكر إحساسى عندما كان يتم منح البعثات لزملاء بأعينهم بترشيحات لا علاقة لها بالعمل وإنما بالعلاقات الخاصة وكان يتم منعها عن كل صاحب رأى مهما اجتهد في عمله وكان مهذبا وموضوعيا في رأيه... أعلم أنه لا عدالة مطلقة على وجه البسيطة لكنى أعلم أيضًا أنه لا يمكن لما حدث خلال عشرات الأعوام من تثبيت لأفكار التمييز الإيجابى والمحاباة حتى صار تفضيل "أبناء العاملين" عرفًا في كل مؤسسات الدولة بلا استثناء.
العدل هو القاعدة لأنه لا يحتاج مالا ولا تخطيطا ولا حتى قانونا وإنما يحتاج ضميرا... يحتاج رجالا لا تخشى في الحق أحدًا ولا تحابى في الحق أحدًا.
قد يقبل الناس أن نتشارك جميعًا في الخروج من الضائقة الاقتصادية مهما كانت حدة الأزمة والتضحيات المطلوبة لكنَّ أحدًا لن يقبل أن يستمر البعض في نهب المال العام عيانا بيانا جهارا نهارا يتقاضون الملايين شهريا في مؤسسات الدولة وقطاع الأعمال العام والبنوك العامة وقطاع البترول وغيرها ويتم استثناء العاملين بها من الحد الأقصى للأجور بينما ترفض مؤسسات أخرى مجرد تطبيق الحد الأدنى للأجور لإنصاف العاملين الذي لا يجدون قوت يومهم.
لا يمكن أن تقوم الضرائب بتعمد متابعة من يفتح كشك سجائر أو عيادة في قرية نائية بينما يترك تسعين بالمائة من التعاملات الاقتصادية في مصر بعيدا عن التسجيل والرقابة وتحصيل الرسوم والضرائب وتظهر كبريات الشركات وكأنها لا تحقق الأرباح حتى تتجنب الضرائب فتكون المحصلة النهائية موازنة عامة ضئيلة وخدمات متردية أو منعدمة.
كل تلك المظاهر من انعدام العدل والعدالة تصب في تأجج نيران الكراهية والحقد بين المواطنين التي تظهر على صورة تطرف يرفض الآخر ويستخدم العنف في التعبير عن الرأى لا فرق فيه بين سياسة أو رياضة أو ممارسات يومية.
نعم العدل والعدالة هما الترياق الوحيد للتطرف والإرهاب والعنف ودونهما لن يكون هناك استقرار ونستمر في الدوران في تلك الحلقة المفرغة التي ندور فيها منذ عشرات السنين.. وللحديث عن باقى أضلاع المثلث مقالات أخرى إن كان في العمر بقية إن شاء الله.