البطل حلاوة والجاسوس الفقي.. والعرق الدساس !
عندما كتبنا قبل أشهر عن تنظيم ثورة مصر الناصرية وقائده البطل محمود نور الدين، ضابط المخابرات المصري الشهيد ورفاقه الأبطال، ومنهم شخصيات مهمة وهم جميعًا ممن أذاقوا المرار لجواسيس إسرائيل ورجال المخابرات الإسرائيلية بالقاهرة، ممن يحملون غطاءً دبلوماسيًا لتسهل عملهم في التجسس على أم الدنيا لم تنقطع الاتصالات والرسائل تطالب بالمزيد من الكتابة لتوضيح سطور مهمة من تاريخ مصر والمصريين وإبطالهم المجهولين خصوصا أن كتابة التاريخ من جديد قادم لا محالة وكل ما قدمه إعلامنا وبعض الكتبة من المأجورين والمستأجرين ستتم كتابته من جديد ليعلم الجميع أن الزيف لا يبقى والتزييف لا يستمر وأن "الهمبكة" لا تكتب تاريخا للأوطان وإنما الهمبكة لا تكتب إلا همبكة ولا تفرز إلا نفسها !
اليوم.. وفي ظل الأجواء الملتهبة في الحديث عن التطبيع والمطبعين نعيد التذكير والذكرى تنفع المؤمنين بواحد من أبطال مصر الذين دفعوا حياتهم في لحظة تدفق وطني غريزي لا يعرفها البعض، نعيد نشرها حتى لا يقول أحد إن نموذج الجاسوس فاروق الفقي هو فقط الذي يحكيه الناس في قصة التعاون مع العدو.. إنما هذا الشعب قادر على التعبير عن نفسه وعن مخزونه الوطني عند الضرورة وفي لحظات الجد الحقيقية!
شاب مصري أصيل من ريف مصر العظيم.. عمره ثلاثة وثلاثون عامًا وهو العمر نفسه الذي أعدم فيه الجاسوس الفقي تقريبا.. وكلاهما من الدلتا.. إلا أن سعد إدريس حلاوة ابن قرية أجهور الكبرى التابعة لمركز طوخ أشهر مدن القليوبية.. كانت الأنباء تقول في ليلة من ليالي فبراير عام 1980 إن الإرهابي الياهو بن اليسار قد اعتمد كأول سفير لدولة العدو الإسرائيلي بالقاهرة.. في تلك الليلة قرر سعد إدريس حلاوة المؤمن بالناصرية والتي تعلم منها أن الصراع مع العدو الإسرائيلي تحكمه قوانين ثابتة كأي صراع له قوانينه أهمها على الإطلاق أنه صراع على الوجود وليس نزاعا على حدود كالذي بين بعض الدول وبعضها، كما أن قانون آخر يحكم الصراع هو أن ما أخذ بالقوة لا يسترد أبدا إلا بالقوة وإلا عاد منقوصًا..
حينئذ قرر حلاوة الاحتجاج بأكبر صرخة ممكنة.. قرر أن يقول أكبر لا على طريقته.. هو يدرك تمامًا أنه لن يستطيع إيقاف شيء ومنع شيء وإنما أراد فقط أن يسجل للتاريخ أن ابنًا من هذا الوطن شرب من نيله فعلا وصار ـ بكل أحكام التكوين ـ رجلا بمعنى الكلمة وليس ذكرًا بأحكام شهادات الميلاد.. وفعلها في اليوم التالي !
ذهب إلى عمله في الوحدة المحلية لقريته.. في يده حقيبة سفر تحمل أشياء بسيطة.. مسدسه.. جهاز كاسيت.. مكبرا للصوت.. طعاما ومياه.. وقرر احتجاز الموجودين كرهائن وحتى إلغاء استقبال الإرهابي الإسرائيلي المتهم كغيره في جرائم تعذيب الأسرى المصريين في حروب سابقة.. لم يكن يعرف أحد أن الطعام والشراب كان لرهائنه من الموظفين فلم يكن يعلم أحد بما يجري في الداخل.. فلم يصلهم إلا صوت سعد حلاوة وهو يطالب بإلغاء استقبال السفاح الإسرائيلي وعدم تدنيسه هواء وأرض مصر.. ثم راح يذيع خطبًا للزعيم الخالد جمال عبد الناصر وأغاني وطنية..
حاصرت قوات الأمن بكثافة المكان وطالبوه بالاستسلام وإلا اقتحامه.. طلبوا من عمدة القرية أن يتحدث إليه.. هو العمدة وابن عمه أيضا.. رفض.. عزلوه.. كان القرار قد اتخذ بتصفيته، فبقاؤه حيًا حتى بعد إنهاء الموقف سيحوله إلى بطل والحل بسيط.. اتهامه بالجنون وهو الاتهام الجاهز لكل من يؤتي سلوكًا هو عين العقل.. وبالفعل اقتحموا الوحدة وقتلوه بدفعات من الرصاص بدأت برصاصة قناص.. واستشهد البطل الذي أراد فقط -فقط- أن يقول للعالم.. وللتاريخ.. إن في هذا البلد رجالًا !
رثاه نزار قباني.. وقال عنه:
من هو سعد حلاوة ؟
جمجمة مصرية كانت بحجم الكبرياء وحجم الكرة الأرضية..
إنه خنجر سليمان الحلبى المسافر في رئتى الجنرال كليبر..
هو كلام مصر الممنوعة من الكلام.. وصحافة مصر التي لا تقصد
وكتاب مصر الذين لا يكتبون.. وطلاب مصر الذين لا يتظاهرون
ودموع مصر الممنوعة من الانحدار وأحزانها الممنوعة من الانفجار!
المدهش أن تفتش في دفاتر عائلة حلاوة فتجد أن جده الأكبر إبراهيم حلاوة أحد أبطال الثورة العرابية وكتب عنه مؤرخنا العظيم عبد الرحمن الرافعي أنه واحد ممن ساعدوا عرابي بالملح والخبز لجمع المال وواحد ممن وقعوا عريضة دعمه!!
لا تندهش فلم لا.. والعرق دساس !
رحم الله شهداء مصر وأبطالها.. سعد حلاوة ومن سبقه ومن سيلحق بهم من الصادقين الأطهار الأبرار..