رئيس التحرير
عصام كامل

تحليل حالة عشق.. الرومانسية الوطنية !


الحب مراتب ودرجات، والعشق طبقات وسموات، من حب الذات والآخر إلى حب الله في ملكوته وآثاره، الظاهرة والباطنة، ومن الحب الشائع الرخيص، إلى الحب البالغ أعلى درجات الطهارة، تمضي الحياة العاطفية والغريزية للرجل وللمرأة.


بالأمس، بلغ الرئيس عبد الفتاح السيسي، طبقة عليا من طبقات الرومانسية الوطنية.

حين أعشق الوطن، فإني أذوب في ذراته ذوبًا، أتوضأ لله، وأسجد، شاكرا نعمة الله على أن منحني وطنًا، وحين أحب ناس هذا الوطن، بكل ما فيهم من عيوب ومثالب، وبكل ما فيهم من شهامة ورجولة وروح وثابة، وحين أثق فيهم وأحظى بثقتهم، فلا معنى لذلك إلا شيء واحد، هو أن القلب رحيب وسيع، شفاف، نقي، عاشق، مستعد أن يدق حتى آخر شريان، ليضخ الحياة والحب في قلوب الآخرين.

أن تعيش لغيرك، ولو بعت نفسك، هو المعني الكامل للعشق في الآخر، والآخر هو المصريون التسعون مليونا، والآخر هو الوطن.. كانت العبارة قاسية حين نطق بها الرئيس، ومهد لها بتحفظ أولى، حين قال "سأقول جملة قاسية: لو ينفع أتباع أتباع".

رفضت نفوس كثيرة قسوة العبارة، ورأتها تحميلا على الكرامة الذاتية للرئيس، بدافع وطني، غير أن "الحالة" التي سكنت "الإنسان" عبد الفتاح أمس، لابد.. لابد أن تستدعي هذا الشعور الفائق بالرغبة في التضحية بالنفس، من أجل إسعاد الآخرين.. حين يعرض رئيس الجمهورية نفسه للبيع ليوفر المال ليبني بلده ووطنه، فإنه يضرب المثل في التجرد والإيثار وعشق التراب الوطني، ولا يجب أن نقف عند حواف المعنى ونعاتبه على فكرة طرح نفسه للبيع.

لا ينبغي أبدًا أن نفصل هذا المفهوم الناري بالاستعداد لبيع الذات، عن الطبيعة العسكرية للجندي، فهو ينخرط في سلك الجندية، وهو عارف أن الحرب قدر، والبقاء أو الموت مقدور، بيد الله، والجندي يقدم الشعور بالموت والاستشهاد على الشعور بالرغبة في الحياة.. هو يعيش لأمرين: أن ينتصر لوطنه على عدوه، أو يسقط شهيدًا، من أجل رفعة وكرامة هذا الوطن.

كان الرئيس إذن في واحدة من سماوات الرومانسية الوطنية، ولقد تدرجت طبقات الصوت بتدرج الصعود في طبقات الشعور وموجاته، من الهمس المسموع، للجهر العاتي أو المعاتب، ومن التحذير والتنبيه إلى الزجر الصادق، وفي كل ذلك، لم يفارقه الصدق.

ولما طلب من الناس ألا ينصتوا أو يصدقوا أو يسمعوا إلا له، فمعنى ذلك أنه بات على يقين من أن الإعلام في مصر هو أحد أمرين: إعلام خائب، مترهل سمج ملول، متعثر، أو إعلام تحريض.

بتعبيري أنا، فإن الإعلام الموجود في الفضائيات المصرية، عند التشخيص الدقيق هو إعلامان: إعلام الخيبة وإعلام الخيانة !
لذلك، أتصور، تساءل: من أنتم ؟!
ولذلك طلب منهم السكوت بأدب لكن المعنى كان "اخرسوا بقى" !
ثم استدرك: لا أشكك في أحد.. أدبه يغلبه.

ولابد أن متابعات الرئيس جعلته على يقين بأن الإعلام الخائب يبث الجهل، ولا يحيط بالقضايا إحاطة كاملة المعلومات، وأن إعلام التحريض، يدفع بالمصريين إلى الهم والغم والتيئيس، وتشتيت المسئولين.

من ناحية أخرى، جانب الصواب عاشقنا الوطني في عدة مواضع، أولها الدفاع عن حكومة المهندس شريف إسماعيل والعبارات التي رددها الرئيس في معرض دفاعه عن جهدها وتعبها، دون مقابل كاف، وأنه يمضي معها بالساعات يناقش ويتابع.

هنا نقول للرئيس، لا تقاس جدارة الحكومات قط، برضا رئيس الدولة عن حكومته، بل تقاس جدارة الحكومة، أي حكومة، برضا الناس.

تلك بديهية سياسية، ولابد أن يعرف الرئيس أن الناس غير راضية عن أداء شريف إسماعيل، وعدد لا بأس به من الوزراء، وعدم الرضا هذا هو ما يمثل عبئا على الرئيس ذاته، وهم بأدائهم البطيء أو ضيق الخيال، أو محدود القدرات، أو النمطي، يمثلون خصمًا من مجهود الرئيس، بل قيدًا على خطواته السريعة النشيطة نحو إنجاز أقصى ما يمكن إنجازه خلال وقت وجيز.

جانبك الصواب أيضا يا ريس، وانت اعترفت بذلك، حين كشفت عن حلول لمواجهة أعباء سنوات ملء خزان السد الإثيوبي، بمعالجة مياه الصرف الصحي، وتحلية مياه البحر المالحة، ولقد فعلت ذلك لطمأنة الناس ولأن تكلفة السكوت -حفظًا للأمن الوطني ولقوة المفاوض المصري- أعلى من تكلفة البوح والإعلان عما لا يجب كشفه!

فضلت أن تطمئن الناس، فطمأنت إثيوبيا أيضا وأضعفت موقف وحجج مفاوضك معها!

جانب الرئيس الصواب أيضًا حين شخص الوضع الوطني، تحيط به المخاطر من الداخل والخارج، وقال: نحن في أضعف حالاتنا !
يريد تحفيز المريض إلى الشفاء، لكن منهج الإصابة بالصدمة، يضرب منهج البعث بالأمل، وخطاب الرئيس أمس كان ترويجًا للأمل.

يبقى أن نقول إن هذا الخطاب من أفضل الخطب لرئيس البلاد، لأنه كان مبنيا على فكرة مسبقة مدروسة، هي ضرورة مواجهة الفصل الثالث من الحرب على مصر، مواجهة الحرب النفسية، تقوم على بث الشائعات وإشاعة روح الهدم، والنقمة، وعدم تصديق أي إنجاز، والإذعان التام لإعلام إما خايب أو خائن.. كلاهما مهزوم بإذن الله، وبوعي ووحدة المصريين.. مهزوم.
الجريدة الرسمية