غالى وهيكل.. عنصرية ما بعد الموت
على يسار المانشيت الرئيسى للأهرام جاء خبر رحيل عميد الدبلوماسية المصرية والعربية وأستاذ الأجيال العالمية د. بطرس بطرس غالى، وقد أفرد محرر الأهرام ثلاثة أعمدة تقريبا، لكى يعرج من بعيد على حياة المصرى العظيم، صاحب أكبر مواجهة دبلوماسية في التاريخ الحديث مع القوة المهيمنة عالميا، ولم يشأ محرر الأهرام أن يتوسع في الصفحة الأولى تاركا المجال لكتاب ومحللين ودبلوماسيين يتحدثون عن مناقب الرجل وتاريخه.
بعدها بساعات كان الخبر المؤلم الثانى لمصر والمصريين -ليس جميعهم-حيث انتقل الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل إلى جوار ربه فكيف تعاملت معه الأهرام-الصحيفة الرسمية؟!!
صدرت الأهرام، وهى تتشح بالسواد معلنة الحداد، وهى من المرات القليلة التي تخرج فيها الأهرام على هذا النحو، حيث تحكمها مجموعة قيمية صارمة في مثل هذه الأمور.. جاء المانشيت بمثابة مرثية، وجاءت العناوين الرئيسية منحوتة بريشة خطاط، وهى أيضا من المرات النادرة التي يعود فيها الأهرام إلى الخط الحر، بعد أن سيطرت خطوط الماكنتوش على الصحافة كلها.
خبر وفاة هيكل على صفحات الأهرام أظهر كيف تصل العنصرية إلى الموت؟ وكيف يتعامل المصريون مع روادهم وقاماتهم؟.. ظهر بوضوح أن الأهرام مارس النشر العنصرى لصالح هيكل، ومارس مراهقة صحفية عندما لم يتعامل مع رحيل المناضل العنيد بطرس بطرس غالى بنفس منطق تعامل الأمم المتحدة معه.. أعلام الأمم المتحدة نكست لثلاثة أيام حدادا على رحيل قيمة مصرية وعربية وإنسانية بينما كان نصيب هيكل مختلفا تماما.
الأهرام تعامل مع هيكل بنفس منطق الألتراس، وتعامل مع غالى بمنطق أنه لاعب أجنبي.. بدا أن «موكب هيكل الجنائزى» هيصة أكثر من أن يبدو محملا بجلال الموت وهيبته وعمقه، وظهر أن رحيل غالى مادة خبرية غير شعبية، تعاملوا معها بمالا يتفق مع قيمته وقامته، ودوره، وتركته الثقافية، والفكرية، التي تركها للأجيال.
الاثنان الآن إلى جوار ربهما، ونحسبهما على خير، وندعو لهما بالرحمة والمغفرة والقبول.. ورغم أن الإخوان اتفقوا تقريبا على أن هيكل في النار، وكأن قيادات الجماعة لديها علم بالغيب، ورغم أن كتائب الجماعة قد صبت جام غضبها على الأستاذ، بعد إعلان خبر وفاته، وقرأنا دعوات من ذلك النوع المستفز على الرجل، وهو في لحظات الاحتضار إلا أن نفس الجماعة وأقرانها لديهم نفس التصورات حول الدكتور بطرس غالى، فالجنة «حكر» على الجماعة ورفاقها في النضال، أما غالى وهيكل فإنهما -حسب معلومات دقيقة ومصادر مقربة- سيصليان نارا في الآخرة!!
القائمون على الأهرام اختاروا ذات الطريق، كانوا إخوانا في النشر، سلفيين في التعامل مع قامتين مصريتين: إحداهما عبر آفاق العالمية من خلال المؤسسات الرسمية، والأخرى عبرها منطلقا من مؤسسات شعبية.. رحيل هيكل في عرف الأهرام مصيبة كبرى تستلزم عليها أن تتحول في هذا اليوم إلى مرثية تنشغل معظم صفحاتها بتاريخ الرجل، بينما رحيل بطرس غالى هو واحد من أخبار الوفيات التي يعتبر نشرها على ثلاثة أعمدة كرم أخلاق من السادة سلفيى الأهرام وإخوانها..
صحيح كان هيكل جزءا من التاريخ المصرى، ولكن غالى كان جزءا من التاريخ الإنسانى كله..كان هيكل ولايزال شخصية جدلية، وكان بطرس غالى شخصية توافقية، خاض حروبا من أجل القيم الإنسانية، حارب من أجل أفريقيا، وكان أول من وضع مصطلح «ولايات عربية متحدة».
كان هيكل متفردا في قراءة وثائق حازها من السلطة، وكان غالى صانع وثائق تحفظها ذاكرة الإنسانية، غالى هو صاحب ذاكرة قانا، وهو صاحب التحدى الأكبر لواشنطن، وهو صاحب أعمق رسالة لأفريقيا، وصاحب أدوات النفاذ إليها، في حين كان هيكل وهو قيمة وقامة مختلفا عليها.. كان هيكل الصحفى الأوحد في عصر عبد الناصر، وكان غالى العربى الأوحد فوق هرم الأمم المتحدة.
كل من اعتلى الأمم المتحدة خضع إلا بطرس غالى.. رفض، وصمد، وثابر، وقاتل تحت عنوان «التاريخ لا يرحم والإنسانية هي القيمة الأعلى والأسمى».. خلعوه من موقعه فارتفع أكثر في ميزان الإنسانية.
أخيرا وليس آخرا، أدعو للفقيدين بالرحمة، وأدعو القائمين على الأهرام إلى الإنصاف والاعتدال وزوال العنصرية، وأشكر للرئيس ومؤسسة الرئاسة تقديرها المنصف لغالى، وكم كنت أتمنى أن يحضر الرئيس جنازة هيكل مثلما شارك في جنازة غالى.