رئيس التحرير
عصام كامل

أخلاقنا.. في عيد الحب


الحلال والحرام.. أكثر ما يشغل بالنا.. رغم أن الحلال بيّن والحرام بيّن.. صحيح أن بينهما أمورًا متشابهات، لكن الانشغال بالمظاهر وسفاسف الأمور يضيع الدين الحقيقي، ويجعلنا نتنكب الطريق إلى الله.


جلس الإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه، إلى الناس يعلمهم، ويفتيهم، فاستفتاه أحدهم: "دم البرغوث يصيب جلباب أحدنا، أحلال هو أم حرام"؟! فغضب الإمام، وسأله: "من أي البلاد أنت"؟! قال: "من العراق".. قال مالك: "تستحلون دم حفيد رسول الله (يقصد الإمام الحسين رضي الله عنه) وتسأل عن دم البرغوث"؟!

لو أننا أحببنا الله حقًا، لتحولت عاداتنا إلى عبادات، لأن تصرفاتنا ستكون في سبيل الله كلها، ومن أجل رضائه تعالى.. لن نتناحر، ولن نتصارع، ولن نتقاتل، ولن نتكالب.. لن نكذب، ولن نخون، ولن نزيف.. إلخ.

الحيوان يدرك بالفطرة الفرق بين الحلال والحرام.. فكثيرا ما طرق أسماعنا درس القطة التي إذا ألقيت إليها قطعة من اللحم فستأكلها أمامك بمنتهى الثبات، ولكنها إذا اختطفتها من وراء ظهرك فستفر بها حتى لا تراها.. "البر هو حسن الخلق، والإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس"، هكذا علمنا الحبيب "صلى الله عليه وآله وسلم".

مدونة سلوكية وأخلاقية.. تصاغ في منهج تعليمي، ويتم تدريسها في المدارس والجامعات.. هذه بداية طريق الإصلاح كما أرى.

فعلها رموز الصوفية، وهم قلة في الماضي، وندرة في الحاضر، وسعى المجددون لنشرها، مثل: الإمام محمد عبده.. الشيخ محمد الغزالي.. شيوخ الأزهر العظام؛ محمد أبوزهرة.. شلتوت.. المراغي.. عبدالحليم محمود.. جاد الحق.. كذلك صاحب تفسير "معجزة القرآن" محمد متولي الشعراوي.

نعيش عصرا مختلفا عما عاش الآباء والأجداد، الذين كانت الأخلاق والسلوكيات تمثل لهم قدس الأقداس.. لم تكن العبادات مجرد مظاهر.

هل تتذكرون كيف كانت تبدو أمهاتنا وجداتنا؟! لم يكن الحجاب، فضلا عن النقاب، معروفا بأشكاله الحالية، ومع ذلك لم يكن هناك تحرش، ولا ابتذال، ولا اغتصاب، بالشكل والمعدلات التي نعاني منها الآن.

الإسلام في صورته الحقيقية يعني: الحب.. التسامح.. الزهد.. مراقبة الله في السر والعلن.. التواضع.. حسن الظن بالله وبالعباد.. الصدق.. الأمانة.. النزاهة.. الورع.

مجتمعنا، رغم ما يزخر به من نماذج مشرفة، يعاني من فساد، وسرقات، وأكاذيب، وضلالات، وتحرش، ومتاجرة بالدين، وتطرف، وتشدد، وتساهل.. إفراط، وتفريط.. وخيانة.. وتزييف، ولي للحقائق.. فساد على كل الأصعدة، وكل المستويات، وجميع المجالات.. لا أحد، تقريبًا، يؤدي واجبه.. معظمنا لا يستهدف إلا الإثراء، وتلبية الرغبات، وإرضاء الشهوات، ولو على حساب الشرف، والذمم، والضمائر.. وغابت كل المعاني، والأخلاق.. حتى الأذواق فسدت، فلم يعد للجمال الحقيقي وجود.. وانتحر الحب، ومات التسامح، وذبل الزهد، وانزوى الورع، واختفى الصدق، وتوارت الأمانة.

صار الجميع يعاني، ويكابد.. الكل مظلوم.. وظالم في ذات الوقت.. المذابح ترتكب ليل نهار.. والدماء تسيل بلا حساب.. والجرائم ترتكب بلا عقاب، والحرمات تنتهك ولا رقيب.

صفحات الحوادث أمست زاخرة بكل ألوان الموبقات، والجرائم الاستثنائية، التي لا تخطر على بال الشيطان نفسه؛ زوجة تهجر بيت الزوجية إلى منزل أبيها، فيعاشرها أبوها نفسه، وأيضًا زوج شقيقتها، وعندما تخبر زوجها (بكل بجاحة) يقتلها.. امرأة تمارس الحرام مع ابن عمها، وهو، في الوقت نفسه، زوج أختها، وعندما تكتشف حماتها، وهي خالتها، الجريمة يقتلانها، ويلقيان بها في "المنور".. شاب يستخير الله في قتل عمته.. شاب يفشل في اغتصاب زوجة جده فيقتلها ثم يغتصب جثتها.

وعن الإعلام، والدراما، حدث ولا حرج.. ابتزاز.. تحريض صريح على الفسق والفجور، ودعوة مكشوفة لهتك الحرمات، وانتهاك الخصوصيات، وارتكاب الموبقات، وفعل المحرمات، والاقتتال من أجل إحقاق الباطل، وإبطال الحق، ولي الحقائق، وإلباس الشائعات والدعاوى لباس البديهيات.

الحل الوحيد.. العودة إلى الأخلاق.. ليس من خلال حملة يقودها شخص متلون.. ولا عن طريق مبادرة يسوقها جاهل.. بل العودة إلى الجذور.. الأصول.. ليس كما يتخيل السلفية، والوهابية، والمتحذلقون.. إلى الفطرة السليمة، حيث نكتشف أن بها كل المعاني الجميلة السامية التي نفتقدها، وغربت عنا شمسها.

الإسلام الحقيقي فيه تلك العودة التي أعنيها: الفطرة السليمة.. والمعاني المفتقدة.. والعبادة الحقة.. ففيه الإنقاذ والخلاص مما نعاني ونواجه.

التربية السلوكية والأخلاقية هي الحل.. بشرط التخلص من الشوائب التي علقت بالتدين، مثل: التشدد، والتمسك بالمظاهر، والتواكل، والتخاذل، والإصرار على الجهل، والفهم الخاطئ لبعض أمور الدين، والتساهل، والتكاسل، والتراخي.

نحتاج للخروج من أزماتنا إلى أخلاق راقية.. زهد في مقابل الطمع.. صدق في مواجهة الكذب المستشري.. عمل وجد واجتهاد لضحد التراخي والتكاسل.. ورع ونزاهة للتخلص من التطاحن والتكالب.. مراقبة الله سرا وعلنا للقضاء على الفساد.. حب وتسامح لمحو الكراهية والعداوة والبغضاء.. فهم وتعلم للجوهر لوقف مد التشدد والتطرف والتمسك بالقشور.

البداية من التعليم.. وعلى الأزهر والأوقاف تضمين أسس السلوكيات والأخلاق في المناهج الأساسية التي يدرسها الطلاب والدعاة والأئمة، والتركيز عليها في الخطب والمواعظ والدروس.. تدريجيًا.. مع وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، لتحقيق "التعليم بالاقتداء".

الأخلاق الطيبة لا تفرض.. والكلام الذي لا يجاوز الحناجر لا يؤتي هدفه، ولا يسفر عن نتيجة.. لابد من التطبيق الحقيقي، وألا نتوقف عند مرحلة "الشو" و"التنظير"، وإلا تحولت الأمور إلى فتنة جديدة، وترسيخ للمعاني الشائهة، والتصرفات القبيحة مجددًا، وهو ما يمثل هزيمة جديدة لكل الجهود والمحاولات.. وقفزة للخلف.

تعالوا، في أيام "عيد الحب"، نصبغ بالحب تصرفاتنا، ونعبر عن حبنا لذوينا وجيراننا، وزملائنا، ورؤسائنا ومرءوسينا.. ونحيي المعاني المفتقدة، من الحب والتسامح، والتفاؤل، والأمل، والعمل والجد والاجتهاد، والصدق، والوضوح، والنزاهة، والموضوعية، والشفافية، والإخلاص، والزهد، والورع.
الجريدة الرسمية