رئيس التحرير
عصام كامل

الدكتور مصطفى محمود يكتب: المؤمن لا يعرف شيئا اسمه «المرض النفسى»

الدكتور مصطفى محمود
الدكتور مصطفى محمود

المؤمن لا يعرف شيئا اسمه المرض النفسي لأنه يعيش في حالة قبول وانسجام مع كل ما يحدث له من خير وشر.. فهو كراكب الطائرة الذي يشعر بثقة كاملة في قائدها وفي أنه لا يمكن أن يخطئ لأن علمه بلا حدود، ومهاراته بلا حدود.. فهو سوف يقود الطائرة بكفاءة في جميع الظروف وسوف يجتاز بها العواصف والحر والبرد والجليد والضباب.. وهو من فرط ثقته ينام وينعس في كرسيه في اطمئنان وهو لا يرتجف ولا يهتز إذا سقطت الطائرة في مطب هوائي أو ترنحت في منعطف أو مالت نحو جبل.. فهذه أمور كلها لها حكمة وقد حدثت بإرادة القائد وعلمه وغايتها المزيد من الأمان فكل شيء يجري بتدبير وكل حدث يحدث بتقدير وليس في الإمكان أبدع مما كان.. وهو لهذا يسلم نفسه تماما لقائده بلا مساءلة وبلا مجادلة ويعطيه كل ثقته بلا تردد ويتمدد في كرسيه قرير العين ساكن النفس في حالة كاملة من تمام التوكل.


وهذا هو نفس إحساس المؤمن بربه الذي يقود سفينة المقادير ويدير مجريات الحوادث ويقود الفلك الأعظم ويسوق المجرات في مداراتها والشموس في مطالعها ومغاربها.. فكل ما يجري عليه من أمور مما لا طاقة له بها، هي في النهاية خير.
إذا مرض ولم يفلح الطب في علاجه.. قال في نفسه: هو خير.. وإذا احترقت زراعته من الجفاف ولم تنجح وسائله في تجنب الكارثة.. فهي خير.. وسوف يعوضه الله خيرا منها.. وإذا فشل في حبه.. قال في نفسه:" حب فاشل خير من زيجة فاشلة".. فإذا فشل زواجه.. قال في نفسه:" الحمد لله أخذت الشر وراحت".. والوحدة خير لصاحبها من جليس السوء.. وإذا أفلست تجارته قال: الحمد لله لعل الله قد علم أن الغنى سوف يفسدني وأن مكاسب الدنيا ستكون خسارة على في الآخرة.. وإذا مات له عزيز.. قال: الحمد لله.. فالله أولى بنا من أنفسنا وهو الوحيد الذي يعلم متى تكون الزيادة في أعمارنا خيرا لنا ومتى تكون شرا علينا.. سبحانه لا يسأل عما فعل.

و شعاره دائما: "و عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون".
وهو دائما مطمئن القلب ساكن النفس يرى بنور بصيرته أن الدنيا دار امتحان وبلاء وأنها ممر لا مقر، وأنها ضيافة مؤقتة شرها زائل وخيرها زائل.. وأن الصابر فيها هو الكاسب والشاكر هو الغالب.

لا مدخل لوسواس على قلبه ولا لهاجس على نفسه، لأن نفسه دائما مشغولة بذكر العظيم الرحيم الجليل وقلبه يهمس: الله.. الله.. مع كل نبضة، فلا يجد الشيطان محلا ولا موطئ قدم ولا ركنا مظلما في ذلك القلب يتسلل منه.
وهو قلب لا تحركه النوازل ولا تزلزله الزلازل لأنه في مقعد الصدق الذي لا تناله الأغيار.
وكل الأمراض النفسية التي يتكلم عنها أطباء النفوس لها عنده أسماء أخرى: الكبت اسمه: تعفف والحرمان: رياضة والإحساس بالذنب: تقوى
والخوف (وهو خوف من الله وحده) عاصم من الزلل والمعاناة: طريق الحكمة والحزن: معرفة
والشهوات درجات سلم يصعد عليها بقمعها ويعلو عليها بكبحها إلى منازل الصفاء النفسي والقوة الروحية
والأرق.. مدد من الله لمزيد من الذكر.. والليلة التي لا ينام فيها نعمة تستدعي الشكر وليست شكوى يبحث لها عن دواء منوم فقد صحا فيها إلى الفجر وقام للصلاة.
والندم مناسبة حميدة للرجوع إلى الحق والعودة إلى الله.
والآلام بأنواعها الجسدي منها والنفسي هي المعونة الإلهية التي يستعين بها على غواية الدنيا فيستوحش منها ويزهد فيها.
واليأس والحقد والحسد أمراض نفسية لا يعرفها ولا تخطر له على بال.
والغل والثأر والانتقام مشاعر تخطاها بالعفو والصفح والمغفرة.
وهو لا يغضب إلا لمظلوم ولا يعرف العنف إلا كبحا لظالم.
والمشاعر النفسية السائدة عنده هي المودة والرحمة والصبر والشكر والحلم والرأفة والوداعة والسماحة والقبول والرضا.
تلك هي دولة المؤمن التي لا تعرف الأمراض النفسية ولا الطب النفسي..

والأصنام المعبودة مثل المال والجنس والجاه والسلطان، تحطمت ولم تعد قادرة على تفتيت المشاعر وتبديد الانتباه.. فاجتمعت النفس على ذاتها وتوحدت همتها، وانقشع ضباب الرغبات وصفت الرؤية وهدأت الدوامة وساد الاطمئنان وأصبح الإنسان أملك لنفسه وأقدر على قيادتها وتحول من عبد لنفسه إلى حر بفضل الشعور بلا إله الا الله.. وبأنه لا حاكم ولا مهيمن ولا مالك للملك إلا واحد، فتحرر من الخوف من كل حاكم ومن أي كبير بل أن الموت أصبح في نظره تحررا وانطلاقا ولقاء سعيدا بالحبيب.
اختلفت النفس وأصبحت غير قابلة للمرض.. وارتفعت إلى هذه المنزلة بالإيمان والطاعة والعبادة فأصبح اختيارها هو ما يختاره الله، وهواها ما يحبه الله.. وذابت الأنانية والشخصانية في تلك النفس فأصبحت أداة عاملة ويدا منفذة لإرادة ربها. وهذه النفس المؤمنة لا تعرف داء الاكتئاب، فهي على العكس نفس متفائلة تؤمن بأنه لا وجود للكرب مادام هناك رب.. وأن العدل في متناولنا مادام هناك عادل.. وأن باب الرجاء مفتوح على مصراعيه مادام المرتجى والقادر حيا لا يموت.

والنفس المؤمنة في دهشة طفولية دائمة من آيات القدرة حولها وهي في نشوة من الجمال الذي تراه في كل شيء.. ومن إبداع البديع الذي ترى آثاره في العوالم من المجرات الكبرى إلى الذرات الصغرى.. إلى الإلكترونات المتناهية في الصغر.. وكلما اتسعت مساحة العلم اتسع أمامها مجال الاندهاش وتضاعفت النشوة.. فهي لهذا لا تعرف الملل ولا تعرف البلادة أو الكآبة.
الجريدة الرسمية