«على البدري» لا يموت
لا أعرف ممدوح عبد العليم، لم أقابله، لم أتحدث إليه، موته لم يكن صدمة لى؛ مات قبله كثيرون، وسيموت أكثر فيما بعد.. وأنا معهم.
علاقة واحدة تربطنى بالراحل، هي شخصية «على سليم البدرى» في ليالى الحلمية، صورة جميلة لشاب نبيل، مثالي، وديع، عيونه حائرة دائما، يعتقد أن العالم مثله، فيصطدم به، ويهتز؛ تجرحه التجربة «الناصرية»، وتقتل أنبل ما فيه؛ تخلق منه شبحا، إمبراطورا في سوق المال، تحوّل مدهش لا يقدر عليه سوى أسامة أنور عكاشة.
كلمات سيد حجاب تقول: «ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء..وواخدنا ليه في طريق ملهوش رجوع»، الملامح الهادئة صارت قاسية، والعيون الحائرة لم تعد ترى إلا نفسها، حتى «زهرة» أحب إنسان لديه، تهجره، ينشغل، يتشوّه، يتشرد، يفقد الهوية، إلا أن يُتمه يدبحه أحيانا ولا يستطيع أن ينسلخ منه، فيكتب «حجاب»: «احتضار الشوق في سجن البدن»، ويغنى «الحلو».
«على البدري» هو أنا، هو مثال حى، للأصالة والنبالة والمثالية، والمصير الذي يصبح عكس ذلك، بعد الاصطدام بالواقع.
ما زالت عيونى حائرة، ما زال الأمل موجودا، لكن الشفقة لا تذهب من عيون الآخرين، الحبيبة لا ترانى لائقا، قالت لى: «هناك حظ أسعد.. ربما يأتى لى»، طموحى أحيانا يحوّلنى إلى فرانكشتاين، إنسان آخر، ممسوخ، ليس أنا، مشوّه، أنانى، لا يرى إلا نفسه، يقتل أنبل ما فيه، ولا يعطى أقرب الناس له حقهم فيه.
هل سيكبر «على البدري» بداخلى؟.. ربما.. أنا أسير خطوة خطوة، نحن الاثنان متشابهان، نشأنا بعيدا عن الأب والأم، تفوّقنا، درس هو الهندسة، وأدرس أنا الإعلام، ظن هو أن العالم يخضع إلى معادلات ورموز محددة، فاصطدم به. وظننتُ أنا أن كل ما يقال في الجرائد صحيحا وحقيقيا، لكنى دخلت إلى صالات التحرير، فتّحت عينى على الحقيقة، عرفت كيف يأتي الخبر، وما الذي يحدث له في الطريق كي يصل إلى القاريء، عرفت أن كل شيء لا يمكن أن يكون كاملا وصادقا إلا بأن تكذب قليلا. ما مصيري إذن؟.. لا أعرف. ما زلت أتحسس طريقي.
حب الشهرة والمال والوصول إلى الناس قد يخلق مني إنسانا آخر يدوس بقدميه على الجميع؛ الطموح يستهلك، والأنانية تقتل؛ قَتلَتْ قبلي «على البدري» فجأة.. هل أموت فجأة؟ يقولون: «في الصحافة.. الحدث يقع فجأة.. والموت أيضا».