لغتنا الجميلة
"أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ.. فَهَلْ سَأَلُـوا الغَـوَّاصَ عَـنْ صَدَفَاتـي".. بيت من الشعر للشاعر حافظ إبراهيم كانت تشدو به إحدى المذيعات الفضليات كمقدمة للبرنامج الإذاعي الأشهر "لغتنا الجميلة" الذي كان يقدمه الإعلامي القدير والشاعر الكبير فاروق شوشة – أطال الله عمره – منذ عام 1967 في الإذاعة المصرية.
"لغتنا العربية يسرٌ لا عسر ونحن نملكها كما كان القدماءُ يملكونها ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه من ألفاظٍ لم تكن مستعملة في العصر القديم".. كلمات طالما صدح بها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين على مسامعنا طوال سنوات عديدة مضت في الإذاعة المصرية أيضًا. وهناك الكثير من البرامج الإذاعية التي أثرت لغتنا العربية وارتقت بالمستوى اللغوي للمستمعين. ولست أدري ما إذا كانت مثل تلك البرامج موجودة على خرائط برامج الإذاعة الآن أم توارت في زمننا هذا.
تداعت تلك العبارات وتواترت الذكريات؛ عندما شاهدت واستمعت إلى جلسات مجلس النواب منذ بدء أولى جلساته في العاشر من الشهر الجاري، فازداد حزني لما آلت إليه اللغة العربية على ألسنة الناطقين بها – كبيرهم وصغيرهم، من حاملي الشهادات العلمية الرفيعة ومن حاملي شهادات التعليم الأساسي وما بينهما – فلم يكن المرء يتخيل أو يتوقع أن يكون مستوى اللغة العربية لهؤلاء النواب –إلا قليلا– عند هذه الدرجة من الضعف الشديد في قواعد النحو والصرف بل في التعبير عن الأفكار بلغة عربية سليمة وبسيطة.
ومما يؤسف له أن "لغتنا الجميلة" لم تتشوه على ألسنة وكتابات المتعلمين أو أشباه المثقفين، بل امتد الضعف والتشوه ليشمل الكثير من الكتّاب والإعلاميين والصحفيين وحاملي الدرجات العلمية.
إننا ندرك أن ضعف وهشاشة وانحدار مستوى التعليم في بلادنا خلال العقود الأربعة الأخيرة هو السبب الرئيسي الذي أدى بنا وباللغة العربية إلى هذا الضعف والهوان-نطقًا وكتابة، نحوًا وصرفًا- غير أن هناك مجموعة من المؤسسات والعوامل ساهمت في تهميش اللغة العربية بقصدٍ أم عن جهل، ومؤسسات وهيئات أخرى غابت وتكاسلت عن أداء دورها في الحفاظ عليها.
لقد ساهم التليفزيون المصري بقدر كبير في "تغريب" اللغة العربية والاستهانة بها حتى وصل به الحال إلى إطلاق الأسماء الأجنبية على بعض قنواته بديلًا عن اللغة العربية، وكذلك إزاء العديد من برامجه، ولعبت الصحافة المقروءة دورًا لا بأس به في إهانة اللغة، فأهملت دور المراجع اللغوي الكفء عاشق اللغة، وتجاهلت الأخطاء اللغوية في الإعلانات وغيرها من المواد المنشورة.
مواقع التواصل الاجتماعي كانت لها اليد الطولى في إبعاد اللغة الصحيحة والسليمة عن معظم المتابعين لها والمشتركين فيها، وفي تدنى كتابات الناشرين والمعلقين.
لقد غابت الثقافة عن القارئ المصري وتوارت المطبوعات عالية القيمة رخيصة السعر عن عشاق القراءة، ولولا إنتاج مكتبة الأسرة في السنوات السابقة لفقد القارئ صلته بالقراءة والمعرفة.
وغاب الأزهر عن دوره في الحفاظ على اللغة العربية وهو-في رأينا- الجهة المنوط بها الاهتمام باللغة والحفاظ عليها من الاعوجاج وتصويب الأخطاء، والعمل على إثرائها ونشرها. وغاب أيضًا مجمع اللغة العربية عن صد الهجوم المتواصل التي تتعرض له ليل نهار على يد أبنائها وغيرهم.
وأخيرًا.. لقد بات الخطرُ الذي يهدد لغتنا الجميلة حقيقة وليس وهمًا، فهل ينتبه القائمون على أمرها وهل يدركونه؟! لا أعتقد.