رئيس التحرير
عصام كامل

محمد عبده.. شيخ المجددين

الإمام محمد عبده
الإمام "محمد عبده"

يحتل الأستاذ الإمام "محمد عبده" مركز الصدارة بين رجال العرب ومفكريهم العظام في القرن التاسع عشر، كانت حياته غاية في الثراء الفكري والنشاط الثقافي والاجتماعي، طوال السنوات التي عاشها، سواء في مصر، أو في فرنسا، وينظر إليه بأنه من أبرز المجددين في التاريخ الإسلامى.

كان صاحب أفكار ورؤى نقدية وآراء إصلاحية جريئة، جسدت بصماته البارزة على مسار فكرنا العربي الحديث، رغم ما طاله من انتقادات واتهامات من بعض معاصريه.

قاد الشيخ الإمام محاولات جادة لإصلاح التعليم في الأزهر، فوجد نفسه وحيدا ليس له من الأساتذة من يساعده ولا من دعاة الخير من ينصره بل إن الدعوة إلى إصلاح الأزهر هوجمت ووصفت بأنها ترمي أن يحول هذا المسجد العظيم إلى مدرسة فلسفة وآداب تحارب الدين وتطفئ نوره، رغم أن الرجل لم يكن يرمى إلى ذلك.

حين قدم اقتراحًا لإصلاح المحاكم الشرعية قال فيه أنه ينبغي أن يعين القضاة في مصر من أهل المذاهب الأربعة لأن أصول هذه المذاهب متقاربة، وقال إن الضرورة قاضية بأن يؤخذ في الأحكام ببعض أقوال من مذهب مالك أو مذهب الشافعي تيسيرًا على الناس ودفعًا للضرر والفساد ـ قام كثير من المتورعين يحوقلون ويندبون حظ الدين، كأن الرجل يطلب شيئًا ليس من الدين، مع أنه لم يطلب إلا الدين، ولم يأت إلا بما يوافق الدين؛ وما ذلك إلا لأن أنصار الجمود من المسلمين قالوا: يولد مولود في بيت رجل من مذهب إمام فلا يجوز له أن ينتقل من مذهب أبيه إلى مذهب آخر، ليوقعوا الأمة فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع في الدين، ولتكون حروب جدال بين أئمة كل مذهب لو صرفت آلاتها وقواها في تبيين أصول الدين ونشر آدابه وعقائده الصحيحة بين العامة، لتمر الأيام والسنون والعقود الطوال، ليجد الأزهر نفسه الآن مدفوعا بمحاولات التقريب بين المذاهب، ومطالبا من رأس الدولة بالعمل حثيثا من أجل تجديد الخطاب الدينى.

نشآته وعلمه
ولد الامام محمد عبده حسن خير الله، في قرية محلة نصر، بمركز شبراخيت مديرية البحيره في عام 1849 في اسرة متوسطة الثراء، عملت بالزراعة، وتعرضت كمثلها لعمليات القسوة والاستغلال من الولاة العثمانيين..
تلقى الطفل تعليمه الأولى للقراءة والكتابة في منزل والده وحفظ القرآن في وقت مبكر من حياته، وذهب به والده إلى الجامع الأحمدي بطنطا لتعليمه تجويد القرآن، ولكن الطريقة التي كانت تدرس بها العلوم الدينية آنذاك لم ترق له فترك الدراسة.

عاد الشيخ الثائر على طريق التدريس إلى الجامع الأحمدي مرة أخرى برغبة ملحة في العلم والدراسة، وتحت تاثير الصوفية شعر بضرورة استكمال العلم في الأزهر، وذهب إلى الأزهر بعقلية الصوفي الزاهد في التمسك بمظاهر الدنيا.
في وقت لاحق من عمره، تعرف "عبده" إلى السيد جمال الدين الافغاني، وعلي يده تلقى بعض العلوم الفلسفية والكلامية والرياضية، ونال بعد ذلك شهادة العالمية من الدرجة الثانية، وبدأ يدرس في الأزهر بعد أن عين فيه، حتى عين في نهاية حياته مفتيا للديار المصرية، بحسب الدكتور محمد عمارة.

"لوثر الشرق"
كان العنصر الجوهري في كتابات الامام الأولى هي الميل إلى الدعوة للعلوم العصرية وتجديد اللغة والاهتمام بالبحث في الاصول الدينية، واستطاع بأسلوبه القوى أن يكتب في عدد من القضايا التي تدور حول تدهور أحوال المسلمين والدعوة إلى بعث قوتهم من جديد، حتى إنه وصف بـ"لوثر الشرق"، بحسب الباحثة "ليلى ورا".

يمكن القول إن الأسلوب الذي اتبعه يتكون من ثلاثة عناصر، الأول: العودة إلى النبع الصافي أو السلف الصالح وكان يعني به الأوضاع التي كان عليها المسلمون الاوائل قبل الخلاف، والثاني: استخدام العقل حيث رأي فيه مظهر التفكير الذي حث عليه جوهر الإسلام بفهم اسسه وبيانها، والثالث: الاستناد إلى أدوات تقوي الصلة بين الإسلام ومتطلبات العصر.

تفسيره للقرآن
بدآ "عبده" في تفسير القرآن بمنهج جديد يعتمد على العقل، ورد في مقالات ست نشرت بـ"المؤيد " مؤكدا على أن الإسلام هو الذي نقل الحضارة إلى أوربا، عبر علمائه وفلاسفته المتقدمين مثل: ابن سينا وابن رشد وابن عربى..
كما رد على "فرح انطوان" صاحب مجلة " الجامعة" بخصوص ما كتبه حول "سماحة المسيحية" وجاء رده مبينا دعوة الإسلام إلى احترام الأديان الأخري وكونه عقيدة للدنيا والدين معا لا فصل بينهما، ثم كتب رسالة التوحيد وهي دراسة عقلية للإلهيات والأصول الفكرية الإسلامية، قدم فيها تفسيرات عكست منهجه التجديدي.

وظهرت له أعمال أخرى مثل: تقرير إصلاح المحاكم الشرعية، كما كتب عددا من المقالات التي أبرزت فكره الاجتماعي، ورغم أنها لا تقدم تصورا كاملا إلا إنها أظهرت معارضته للغني الفاحش ودعوته إلى التكافل الاجتماعي، كما ترجم "عبده" كتاب "التربية" للفرنسى "هربرت سبنسر"، كما كتب مقدمة لرسالة " الواردات: وقام بنسخ كتاب "الإشارات" لـ"ابن سينا ".
وإجمالا..يحتل الإمام "محمد عبده" مكانة بارزة في الفكر السياسي الإسلامي والعربي والمصري، كما قدم فكرا سياسيا متميزا كما لعب دورا بارزا في الحركة الوطنية.

رفض الإمام محمد محمد عبده السلطة الدينية، ولكنه لم يناد بالعلمانية. وإنما نادي بالسلطة المدنية الإسلامية. فهو يقول إن الحاكم ليس له سلطة دينية فيحكم على عقائد الناس بالفساد أو الصلاح، كما كان يفعل الباباوات في أوربا، وإنما الحاكم الإسلامي سلطته مدنية ويحكم بالشرع الإسلامي كسلطة تنفيذية تنفذ هذا الشرع، وليس وسيطًا بين الله وعباده.
كان محمد عبده لا يري طريقًا للإصلاح الديني إلا بإصلاح الأزهر، وقال في ذلك ” إن بقاء الأزهر متداعيًا على حاله، في هذا العصر، محال، فهو إما أن يعمر، وإما أن يتم خرابه”.
توفي الإمام محمد عبده بالإسكندرية عام 1905، تاركا خلفه ذكرى خالدة ومسيرة لا تموت ونموذج يحتذى به في عدم الاستسلام للقديم والنزعة إلى التجديد، ورثاه شاعر النيل حافظ إبراهيم يؤمئذ قائلا:
بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة
وضاقت عيون الكون بالعبرات
ففي الهند محزون وفي اليمن جازع
وفي مصر باك دائم الحسرات
وفي الشام مفجوع وفي الفرس نادب
وفي تونس ما شئت من زفرات
بكى عالم الإسلام عالم عصره
سراج الدياجي هادم الشبهات
الجريدة الرسمية