رئيس التحرير
عصام كامل

الزيارة.. الزيارة


يرتبط مفهوم الزيارة في العرف الريفي المصري بأنك تركب القطار، والقفص أو القفة أو المشنة، ملآنة حتى فمها بالبط والوز والسمن البلدي، والبيض البلدي، وعيش الفرن، والجبن القريش، والفطير المشلتت، وهبرتين زبدة، وبلاص مش بالدود!


عفوا لقلة ذوقي في إيراد اسم الدود، لكن الحقيقة أنه جزء عضوي منه، وتعرف ذلك أجيال وراء أجيال، من عشاق مش الزلاع والبلاليص.

ما علينا، هذه هي صورة الزائر وزيارته، "شفناها" على الطبيعة في قطارات الضواحي، والصعيد وخطوط الدلتا، كما شفناها في أفلام إسماعيل ياسين وأمينة رزق.

اليوم يتعامل الاعلام المصري وصحفيون مصريون، في كتاباتهم وعناوينهم الفجة المجافية للذوق، مع زيارة الرئيس الصيني إلى مصر بوصفها زيارة فلاح حامل القفص، أو السبت، من طراز سمعة أو أمينة أو عبد الوارث عسر.

دخل على أهل المدينة، فهتف أقاربه أن وسع وسع دكر البط والمشلتت وصلوا!

اختصروا الزائر الذي أعد العدة وجهز الزاد والزواد، وركب القطار وقطع الأميال، في دكر بط وكرات من الزبد والمش والكرات، والمشلتت!

شيء من هذا فعله إعلامنا، فقد اختزلوا ستين عاما من علاقات الصداقة والدفء بين القاهرة وبكين، في عشرة مليارات دولار، في أول زيارة لزعيم صيني منذ ١٢ سنة.. لقد صار اسم الزيارة الشائع هو زيارة العشر مليارات، والبعض زودها مليارين فصارت زيارة الـ١٢ مليار دولار.

بطبيعة الحال، تتحدث الدول عن المنافع المشتركة والمصالح المتبادلة، وترسخ فيما بينها مفاهيم الصداقة، وتستند فيما تقدمه دولة، وما تستقبله دولة أخرى إلى خبرات وتجارب صمدت في وجه المحن والمشكلات، وبالتالي فإن ما تفعله الصين مع مصر هو استدعاء لخبرة الاعتراف الأول من مصر بدولة الصين، ومن يومها لم تتوان الصين عن دعم القاهرة، وأذكر بعد هزيمة ٥ يونيو ١٩٦٧، كم المساعدات التي قدمها الزعيم الصيني شوائن لاي، وكنا نحفظ اسمه لتكرار ذكر الاسم مرتبطا بانسجام خاص بين ناصر وشواين لاي والزعماء السوفيت في ذلك الوقت.

ليس من الذوق إذن، أن نصمم على القول إن زيارة الرئيس الصيني هي "زيارة فلوس".. الفلوس هي مشروعات، تعود بالنفع على الدولتين، ولن يعطيك أهل الصين أموالهم مجانا، ولا أنت، لو مكانهم، ستمنحهم هذا المبلغ الضخم مقابل سواد العيون الصينية، على ضيقها وانحرافها البديع، إنما هي مصالح ومكاسب.. وهذا بالضبط ما عبرت عنه وثيقة أطلقتها الحكومة الصينية أول أمس، عنوانها الإستراتيجية الصينية في التعامل مع البلدان العربية وأفريقيا، ركزت فيها على المفهوم الأخلاقي للمسئولية، وأكدت على دعم الاستقرار والتنمية والحفاظ على علاقات الصداقة التقليدية بين العرب وبكين، وتعزيز المكاسب المشتركة.

ولا شك أن الشعب المصري سعيد بزيارة التنين الصيني العملاق، كما سعد بزيارة الدب الروسي الذي يدعم مصر ويعززها عسكريا وتنمويا، ومصدر السعادة الحقيقي هو أن يرى الأمريكيون أنهم ليسوا وحدهم مصدر أكل العيش في هذا العالم، خصوصا أن خبزهم سام ومخلوط بالشروط، وفيه خوازيق المؤامرات.

أهل الصين شرق مثلنا، وفي الروس شرقية محسوسة، أما الأمريكان ففيهم صفراوية الكاره المضمر شرا.. أهلا بالزيارة والزائر، حتى من غير فلوس!
الجريدة الرسمية