رئيس التحرير
عصام كامل

غابت دولة الفن.. فحضر «تجار اللحمة»

فيتو

يعتبر جيل الثمانينيات آخر الأجيال التي سيظل لديها مخزون ثقافى وفنى، وحنين إلى ذكريات الطفولة التي ارتبطت لديهم بالتليفزيون الحكومى وما كان يقدمه من برامج وأفلام ومسلسلات ظلت كلها علامات فارقة في حياة ذلك الجيل حتى يومنا هذا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر برامج مثل "ماما نجوى"، "اليوم المفتوح"، "تاكسى السهرة" و"اخترنا لك"، ومسلسلات مثل "ليالى الحلمية"، و"هوانم جاردن سيتى"، وكارتون مثل "كابتن ماجد" و"ماوكلى"، حتى إن ذكرياتهم تنقسم إلى شقين، الأول ما قبل النايل سات، والثانى ما بعده.


أما الأجيال التالية فهى أجيال سيئة الحظ، لم يعد لديها مخزون ثقافى أو فنى، وأصبح عدد كبير منهم يستمد ثقافته من برامج "الردح" التي يطلق عليها كذبًا "توك شو"، أو من أفلام السبكى التي تمتلئ بالألفاظ والإفيهات البذيئة، والمسلسلات التي أصبحت بلا طعم أو لون وأغلبها يجارى سوق التعرى والألفاظ، فهو جيل لم يجد أمامه من يحتويه ليستمد من خلاله ثقافته، والسبب في ذلك أن هذا الجيل جاء في وقت تخلت فيه الدولة عن دورها في دعم الفن والإعلام، مما أدى لظهور كيانات موازية للدولة سيطرت على السينما والدراما والقنوات الفضائية.

السينما
وبعد ثورة 1952 تنبهت القيادة السياسية إلى أن السينما سلاح مهم لتثقيف الشعب وتنمية وعيه، ولم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى أصدر الرئيس محمد نجيب بعد الثورة بأربعين يومًا قرارا أكد فيه أن السينما وسيلة من وسائل التثقيف، رافضًا ما وصفه بـ "الميوعة والخلاعة" التي كانت تقدم في ذلك الوقت، مؤكدًا أن الفن يجب أن يكون هادفًا وليس وسيلة للربح، مما أدى لظهور نوعية من الأفلام الوطنية مثل "يسقط الاستعمار" و"أرض الأبطال".

ولم يستمر الرئيس محمد نجيب طويلًا وجاء بعده الرئيس جمال عبد الناصر، الذي اهتم بالسينما بشكل كبير بعد العدوان الثلاثى على مصر، وأصدر قرارًا جمهوريًا عام 1957 بإنشاء مؤسسة دعم السينما لتقديم الدعم المادى والمعنوى لصناع السينما، وفى الستينيات أممت الحكومة عددًا من شركات الإنتاج والتوزيع الكبيرة، وبعض ستديوهات التصوير الكبرى، وأنشأت المؤسسة المصرية العامة للسينما، وبالرغم من تأثر السينما بهذا الأمر وهجر عدد كبير من المنتجين والفنانين لها، إلا أن نوعية الأفلام التي كانت تقدم في تلك الفترة كانت جميعها تحترم عقل الشعب المصرى، وفى عصر السادات بدأ الانهيار السينمائى بعدما قام بحل شركات القطاع العام، ولم يعد هناك مؤسسة السينما وشركة مصر للإنتاج، مما أدى لانتشار أفلام المقاولات في تلك الفترة وخاصة في السبعينيات بعد حرب أكتوبر.

وفى عهد مبارك حاولت الدولة السيطرة على السينما قليلًا بعيدًا عن مشاركتها في الإنتاج بمنع الأفلام التي قد تسبب غضبًا مجتمعيًا، وتمثل ذلك في منع عدد من الأفلام التي تمس الدين أو الجنس، والأهم تلك التي تمس السياسة، مع ترك الحرية للمنتجين في إنتاج أي عمل في الحدود التي يقبل بها المجتمع، وبعد ثورة 25 يناير تراجع التليفزيون الحكومى على كل المستويات في السنوات الأخيرة ومع غياب الدولة تمامًا عن الفن وتخوف المنتجين من إنتاج أعمال جديدة سيطر السبكى على الساحة وأصبح هو المتحكم الأول فيها، مع ظهور بعض المنتجين بأفلام هادفة بين الحين والآخر، ولكن ظلت السيطرة الكاملة في النهاية للسبكى الذي قدم نموذجًا في تدمير ثقافة الشعوب من خلال مجموعة من الأفلام السوقية، مما أدى إلى غياب السينما لتقديم دور مخالف تماما عن الذي من المفترض أن تقدمه.

الدراما
بدأ الإنتاج الدرامى في مصر عام 1965، مع ظهور التليفزيون، ومنذ ظهور هذا النوع من الفن خضع لسيطرة الدولة بشكل كامل من خلال قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون، الذي كان ينتج كل الأعمال التليفزيونية تقريبًا حتى نهاية التسعينيات مع ظهور عدد من شركات الإنتاج التي دخلت مجال الإنتاج الدرامى، قبل ذلك قدم قطاع الإنتاج عددا كبيرا من المسلسلات، وكانت أفضل فترات القطاع في الثمانينيات والتسعينيات والتي قدم خلالها ما يقرب من 140 عملًا دراميًا منها علامات لن ينساها المشاهد المصرى، مثل "رأفت الهجان"، "ليالى الحلمية"، "ألف ليلة وليلة"، "المال والبنون"، "هوانم جاردن سيتى"، "لن أعيش في جلباب أبى"، وغيرها واستمر الأمر على هذا الحال حتى بداية الألفية الجديدة، وكانت مسلسلات قطاع الإنتاج تتميز بالقصة الجيدة المستمدة من الواقع المصرى والتي تتلاءم مع عادات وتقاليد المجتمع المصرى، وكان كل مسلسل يبعث برسالة اجتماعية واضحة.

ومع السنوات الأولى من الألفية الجديدة، وعدم قدرة قطاع الإنتاج على مجاراة التطور والسوق الحديث، دخلت عدد من شركات الإنتاج في سوق الإنتاج الدرامى، ووصل عدد المسلسلات في بعض السنوات إلى أكثر من 60 مسلسلًا، لدرجة أن بعضها لم يكن لديه الفرصة للعرض، ومع هذا الإنفتاح ضاعت هوية المسلسل المصرى، وأصبحت رسالة المسلسل هي الربح فقط، حتى أن تلك المسلسلات رسخت مبادئ ومفاهيم سيئة في الشارع المصرى، ومع عرض تلك المسلسلات على القنوات الفضائية صدرت صورة سيئة عن مصر للعالم العربى، ولم يراع معظمها عادات وتقاليد المجتمع المصرى، والأسوأ من كل ذلك أن غياب قطاع الإنتاج عن أداء دوره أدى لحصر موسم الدراما في شهر رمضان من كل عام فقط، بعدما كان المشاهد المصرى معتادًا على مشاهدة مسلسل جديد كل شهر خلال السنة.

السبب في ذلك يعود إلى توقف التليفزيون المصرى عند حقبة التسعينيات وعدم رغبة المسئولين عنه في الخروج من تلك الحقبة، فحتى هذه اللحظات لو شاهدت ديكور أي برنامج يذاع على الفضائية المصرية ستظن أنك تشاهد برنامجًا مسجلًا من عام 1995، وهذا الغياب من جانب التليفزيون المصرى أدى لظهور عدد من شبكات التليفزيون الخاصة يملكها رجال أعمال لا يرغبون في توصيل رسالة هادفة بقدر ما يريدون السيطرة على عقول المشاهدين لحماية مصالحهم الخاصة، فتحولت البرامج إلى "وصلات ردح"، وغابت معايير المهنية الإعلامية.
الجريدة الرسمية