«إزي الصحة؟!».. المستشفيات الحكومية تضيق بالفقراء و«الاستثمارية» ترفع شعار «أبجني تجدني».. أباطرة الطب النفسي يحتكرون علاج المرضى في مراكزهم الخاصة بأسعار باهظة
لا يختلف اثنان على تدهور المنظومة الصحية الرسمية بشكل صارخ ومؤلم، حتى أصبح البحث عن العلاج بالنسبة للفقراء من المستحيلات الأربع، في مقابل تضخم مافيا العلاج الخاص، من خلال مستشفيات خاصة واستثمارية لا يجرؤ على دخولها إلا الميسورون والأثرياء.
الدولة الموازية في القطاع الطبي تضخمت، وأصبحت فوضوية تعمل بدون نظام ودون رقابة، ساهم في إنشائها الدولة الرسمية، بسبب الإهمال في تردي الخدمات الطبية المقدمة داخل المستشفيات الحكومية ونقص الخدمات، وكذلك من قبل الأطباء الذين لم يلبِ القطاع الحكومي الرسمي احتياجاتهم وتوفير الأجور المناسبة، فأدى ذلك إلى هجرة الكوادر والبحث عن مصادر أخرى للرزق بعيدة عن العمل الحكومي، ما أدى إلى الحاجة الملحة لوجود نظام آخر بديل وموازٍ عن النظام الحكومي، فبدأ أصحاب المصالح والمستثمرون في إنشاء المستشفيات الخاصة التي كانت تهدف ظاهريا للمساعدة في تقديم الخدمات الطبية، وتكون داعمة للمستشفيات الحكومية، وبعد ذلك نتيجة تضارب مصالح، أصبحت تهدف للربح بالدرجة الأولى على حساب المرضى.
الدولة الموازية في القطاع الطبي، تتمثل في سيطرة المستشفيات الخاصة على 70% من الإنفاق على الصحة، التي أصبحت تنافس وبقوة المستشفيات الحكومية.
كذلك سوق الدواء الموازية، أصبحت تمثل قوة لا يستهان بها، وتضم الأدوية المغشوشة والمهربة، بالإضافة إلى سيطرة شركات الدواء الخاصة على سوق الدواء والعمل على تدمير سوق الدواء الحكومية وشركات قطاع الأعمال.
أيضا تتسبب الدولة الموازية للقطاع الطبي في انتشار الخرافات والنصب على المواطنين، باسم العلاج بالأعشاب أو بول الإبل أو لبن البقر، وهو يسيطر على جزء كبير من عقول المصريين، وكذلك الأدوية غير الرسمية أو ممارسة غير المتخصصين لمهنة الطب.. كلها نماذج رسخت للدولة الموازية للصحة في مصر، وساهم في ترسيخها وتضخمها المواطنون أنفسهم على مرأى ومسمع من الدولة الحكومية الرسمية دون رادع.
تضارب مصالح
الدكتور خالد سمير، أستاذ أمراض القلب بجامعة عين شمس، وعضو مجلس نقابة الأطباء، اعترف لــ"فيتو"، بوجود دولة موازية للمنظومة الطبية غير قانونية متعددة النماذج، مضيفا أن الدولة الموازية في الصحة تتمثل في ممارسة الأطباء أنفسهم لتخصصات مختلفة كطبيب جلدية يجري عملية جراحية أو صيدلي يشخص حالة مريض تشخيصا خاطئا، أطباء يخدرون المرضى ويمارسون تخصص التخدير وهم غير مؤهلين، وكذلك ممارسة التخدير في العيادات كلها أعمال خارج إطار القانون.
وأشار إلى أن القطاع الموازي الآخر، وهو العمل في إطار قانون المستشفيات الخاصة الاستثمارية، خاصة أن الدستور ذاته نص على الاستثمار في الصحة، إلا أنه نتيجة تضارب المصالح أصبح نظاما موازيا للنظام الحكومي وينافسه، وأصبح الطبيب وعضو الفريق الطبي يفضل العمل في المستشفيات الخاصة، ويترك عمله الحكومي بسبب الأجور المتدنية، خاصة أن الأطباء يعملون بشكل شبه مجاني في الحكومة.
وتابع أن عدد الأسِرة في المستشفيات العامة، سواء حكومية أو جامعية، يقرب من 85 ألف سرير، وهو لا يكفي احتياجات المرضى، وبدلا من أن تتعاقد الحكومة مع المستشفيات الخاصة لمضاعفة قدرتها الاستيعابية، أصبح قطاعا منافسا لها.
وأكد أن القطاع الصحي الخاص أقوى من الحكومي، لأنه قائم على نظام اقتصادي قوي ودراسات جدوى حقيقية، وتهدف كل المستشفيات الخاصة للربح، وأشار إلى أن عدد المستشفيات والأسرة في القطاع الحكومي لا يتناسب مع عدد المصريين، فضلا عن تردي مستوى الخدمة المقدم، لافتا إلى أنه يفترض وجود سرير لكل 100 مواطن، بالإضافة إلى سرير رعاية مركزة لكل ألف مواطن، ولكن القوة الفعلية لعدد الأسرة يقرب من 85 ألف سرير و3652 سرير رعاية مركزة تابعة لوزارة الصحة، وهو أقل من المطلوب، والنسب العالمية تشير إلى سرير رعاية مركزة لكل 7 آلاف مواطن على الأقل.
وتابع: "لدينا 85 ألف منشأة خاصة في مصر، تشمل عيادات ما يقرب من 60 ألف عيادة و20 ألف مركز طبي، بالإضافة إلى المستشفيات الخاصة، تتراوح من 3 إلى 5 آلاف مستشفى، مضيفا أنه لدينا 250 ألف طبيب ونحو 140 ألفا منهم فقط داخل مصر.
وتابع أنه لا يمكن للدولة تشديد الرقابة فعليا على المستشفيات الخاصة، ومحاولة هدم النظام الموازي الذي خلق بقوة، لعدة أسباب منها عدم القدرة على توفير خدمة صحية لكل المواطنين، فضلا عن الفساد وتضارب المصالح.
وأضاف أن النظام الموازي للطب في مصر، المتمثل في الطب البديل والعلاج بالأعشاب، أو من ينتحل صفة طبيب ويدعي ممارسة مهنة الطب، لا يوجد لهم عقوبة أو رادع، وتتمثل العقوبة في غرامة 200 جنيه وفق قانون مزاولة المهنة.
وأشار إلى أن 80% من المرضى يذهبون لغير المختصين والأطباء، لافتا إلى أن القطاع الموازي للطب منه الإعلانات المضللة الخاصة بالأدوية غير المسجلة والمهربة، وكذلك إعلانات الأطباء غير المختصين في الفضائيات بدون سلطة أو رقابة.
«بدون رقابة»
الدكتور علاء غنام، خبير السياسات الصحية ومنسق لجنة الحق في الصحة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أكد لـ«فيتو» أن الإطار الموازي لممارسة مهنة الطب في مصر سوف يحكمه قانون المسئولية الطبية غير المطبق، الذي نسعى لتطبيقه.
ووصف النظام الصحي الموازي بأنه ليس له قواعد "ماشي على حل شعره"، حسب تعبيره، وليس عليه رقابة، وسبب ظهوره الأساسي هو أن النظام الأصلي الحكومي فشل في القيام بدوره وإرضاء المرضى.
الدواء فيه سم قاتل
سوق الدواء في مصر جزء لا يتجزأ عن منظومة الصحة في مصر، أصبحت تجارة رابحة توازي تجارة المخدرات، حسبما يؤكد دائما العاملون فيها والصيادلة، وتمثلت فيها بقوة الدولة الموازية التي تشعبت واشتعلت المنافسة بينها وبين شركات قطاع الأعمال البالغ عددها 11 شركة دواء حكومية، إلا أن إمكانيات وفكر شركات القطاع الخاص استطاعت تدمير الشركات الحكومية.
هاني سامح، مسئول ملف الدواء في المركز المصري للحق في الدواء، أكد لــ"فيتو" أن شركات القطاع الخاص أصبحت سوقا رسمية موازية لسوق الدواء الحكومية في مصر، بعد خروج شركات القطاع العام من المنافسة، وأصبحت نسبتها لا تتعدى 3% من حجم السوق، بسبب الإدارة الفاشلة وعدم وجود فكر تسويقي ناجح.
وأشار إلى أن حجم مبيعات السوق الرسمية للدواء تبلغ من 30 إلى 40 مليار جنيه سنويا، بينما السوق الموازية تبلغ زيادة على 15 مليار جنيه سنويا، لافتا إلى أن الصيدليات الخاصة تعتمد في أرباحها على السوق الموازية للدواء، التي تضم الأدوية المغشوشة والمهربة، التي تعد تكلفتها على المهربين ملاليم ويجنون من خلفها أرباحا ومكاسب طائلة.
وأضاف أن الدولة الموازية في قطاع الدواء تتمثل في مافيا دخلاء المهنة والصيدليات التي تبيع الدواء المغشوش والمهرب، مشددًا على أن كثيرًا من الأطباء البشريين والصيادلة باعوا وخانوا قسم المهنة والبحث وراء الربح السريع، كلها عوامل خلقت دولة موازية، أصبحت تنافس أو تسيطر على السوق الأساسية، مؤكدا أن "الموازية للدواء" تتضخم يوما عن يوم على حساب المرضى.
٤٠ مليار جنيه
الدكتور علي عبدالله، مدير مركز الدراسات الدوائية، أكد لــ"فيتو"، أنه منذ تأسيس قطاع الدواء في مصر كانت شركات الإنتاج التابعة لقطاع الأعمال وشركة التوزيع الحكومية هي المصرية لتجارة الأدوية، وهي الشركة الأم للتوزيع، يسيطرون على إنتاج وتوزيع الدواء في مصر، وبعد سنوات نشأت شركات قطاع خاص من رحم الشركة المصرية لتجارة الأدوية، أصبحت تسيطر على السوق المصرية، وبدأت تحارب في القطاع الحكومي، وكشف عن أن الدولة المصرية لها دور أيضا في نشأة النظام الموازي، ونجاح وتضخم القطاع الخاص على حساب الحكومي، بسبب تركها لشركات الدواء الحكومية تنهار أمام إمكانيات الشركات الخاصة دون تطوير، وتتسبب في تدمير مستقبل 25 ألف عامل في شركات قطاع الأعمال، يتم دفع مرتبات لهم تصل إلى مليار و200 مليون جنيه سنويا، وتتسبب في خسائر 350 مليون جنيه سنويا.
وعلى الرغم من أن شركات قطاع الأعمال، ربحيتها مضمونة في حال تطويرها واهتمام الدولة بها لتنهض، إلا أنها تنفق أموالها في مشروعات أخرى تستنزف مليارات الجنيهات في مشروعات قد يكون لها ربح أو لا.
وتابع "عبدالله" أن حجم التداول في السوق الدوائية يبلغ 40 مليار جنيه، والقطاع الحكومي نصيبه من تورتة السوق، على حد وصفه، النصيب الأضعف، بينما تسيطر الشركات الخاصة العملاقة على بقية السوق.
وأضاف أنه لولا أن الشركة المصرية الحكومية الوحيدة لتوزيع الدواء مختصة حتى الآن بتوزيع الدواء المدعم، مثل الألبان المدعمة، وأدوية الجدول "المخدرة"، وبعض الأدوية المستوردة لأمراض السكر والكبد المدعمة، لم يكن لها أي تواجد في السوق وتم تدميرها منذ سنوات.
وأشار إلى أن الشركات المنتجة الخاصة بدأت تسحب توكيلاتها من الشركة الحكومية لصالح شركات التوزيع الخاصة، وكذلك شركات الإنتاج، موضحا مثالا على ذلك بوجود حقن كانت من إنتاج شركة مصر تباع بـ60 جنيها، تحصل عليها السيدات الحوامل، وتم سحبها من الشركة لتتوافر في السوق من خلال الاستيراد بسعر 300 جنيه.
٥ ملايين مريض نفسيا
الصحة النفسية جزء لا يتجزأ من المنظومة الصحية في مصر، وهي قطاع لا يستهان به، خاصة أننا لدينا 5 ملايين مريض نفسي حسب إحصائيات أمانة الصحة النفسية في مصر، والعدد قابل للزيادة، وهم الذين لم يكتشفوا المرض، لأن النسب العالمية تؤكد وجود 12% من المصريين مصابون بأمراض نفسية، ومع ذلك ليس لدينا سوى 18 مستشفى حكوميا فقط، تضم عدد أسرة قليلا مقارنة بأعداد المرضى، بالإضافة إلى وجود 60 مستشفى خاصا مرخصة تقدم خدمات الصحة النفسية وعلاج الإدمان.
ونشأت في هذا القطاع دولة موازية قوية، يمتلكها رموز الطب النفسي في مصر، ولطبيعة المرض النفسي يتم حجز المرضى داخل المستشفيات الخاصة فترات طويلة بأسعار باهظة ليس لها رادع ولا قانون ينظمها.
مصادر "فيتو" أكدت أن قطاع الصحة النفسية في مصر يسيطر عليه رموز الطب النفسي في مصر، ويفصلون القوانين بما يخدم مصالحهم، منها قانون الصحة النفسية لسنة 2009.
وتابعت المصادر أن نقص الخدمات التي تقدمها الدولة في مستشفيات الصحة النفسية، البالغ عددها 18 مستشفى فقط، أدى إلى ظهور الحاجة إلى خدمات إضافية أخرى، وتم استغلالها استغلالا سيئا، من خلال ترخيص مستشفيات صحة نفسية خاصة في مصر، كان الهدف الظاهري منها هو تقديم خدمات طبية للمرضى ومساعدة القطاع الحكومي، إلا أن ما حدث عكس ذلك وهو أنها أصبحت مصدرا للربح لأصحابها، وظهرت العيادات الخاصة والمستشفيات الخاصة، وأصبحت قوة موازية للمستشفيات الحكومية.
وأضافت أن المسئولين عن وضع سياسات الصحة النفسية في مصر استغلوا ضعف الإمكانيات المادية في القطاع الحكومي، وصعوبة التوسع في الأسِرة الحكومية والحاجة إلى مصادر بديلة، وتم التوسع في إنشاء مستشفيات خاصة للصحة النفسية تحت ضغط الاحتياج وكثرة عدد المرضى المترددين عليها، تقدم الخدمات بأسعار مرتفعة، بالإضافة إلى ضعف القوانين المنظمة للقطاع الحكومي وليس لها سيطرة على القطاع الخاص.
وتابعت المصادر أن المجلس القومي للصحة النفسية وإدارات العلاج الحر بوزارة الصحة، لا يمكنها الرقابة والتفتيش.
وأشارت إلى أن عدد الأسِرة الخاصة بعلاج الإدمان الحكومية لا يتخطى 650 سريرا لعلاج الإدمان، وهو لا يكفي، مقارنة بعدد المرضى المدمنين والمقدر عددهم بـ3 ملايين مدمن أو أكثر، وكذلك عدد أسرة الصحة النفسية خلال 18 مستشفى بالجمهورية، 6660 سريرا، وعدد المرضى أكثر من ذلك، مؤكدا قلة عدد الأطباء النفسيين لما يقرب من ألف طبيب، نصفهم يعمل بالخارج ويحصلون على إجازات بدون راتب.
وتابعت أن أسرة علاج الإدمان في القطاع الخاص 4 آلاف سرير، ويستغلون حاجة المرضى، إضافة إلى جانب موازٍ آخر أكثر خطورة ولا يوجد حصر له، وهو مراكز علاج الإدمان المشرف عليها مدمنون متعافون.
وكشفت عن أن الدولة الموازية لعلاج الإدمان يسيطر عليها المدمنون المتعافون، حيث إن 90% من مراكز علاج الإدمان الخاصة يديرها مدمنون متعافون، ويستغلون ضعف الرقابة واحتياج الأهالي للعلاج، ويفتحون مراكز وهمية للعلاج يحبس فيها المرضى بدون وجه حق تحت مسمى العلاج.
وتابعت: "نحتاج على الأقل 50 ألف سرير للصحة النفسية في مصر، لسد الاحتياجات، ونعاني من عجز رهيب، وهو ما أتاح الفرصة للدولة الموازية للنمو والتضخم".