ليلة القبض على عصام كامل.. وسر هتاف الإخوان!
برشاقة وعذوبة الشجن، عزف عصام كامل رئيس التحرير بالعدد السابق، كونشيرتو رحلة حياته الصحفية الثرية المُرَصَّعَة بالعرق والمطبات والنجاحات والمُثْخَنَة أيضا بالجراح.. لكن أروع ما فيها أن اللحن الأساسي لها كان العرفان الجميل والتواضع المحترم.
حكى عصام عن بداياته الأولى في "الأحرار"، إلى أن وصل إلى مرفأ "فيتو" في مناسبة دخولها العام الخامس.. في الأمتار الأولى من رحلته عرفته وتابعته.. كان ضفيرة إنسانية ومهنية رقيقة وراقية.. وسأكتفي عند هذا الحد؛ لأنه رئيس تحرير المطبوعة التي أكتب فيها.. غير أنني سأقف قليلا وسريعا عند ما أورده كامل باختصار مُخِلِّ عن يوم القبض عليه وسحله بشارع الجمهورية.
كتب يقول "مضت سنوات العمل بين كر وفر، ومطاردات أمنية وقُبِض عليَّ في الشارع".. اكتفى هو بذلك.. لكن ذلك اليوم لن أنساه.. دعوني أحكيه بطريقتي طالما دخلت ذكراه عش "الساخرون".
كانت هناك هجمة شرسة من حملة أمنية عينك ما تشوف إلا النور؛ لإخلاء الشقق التي يشغلها حزب الأحرار وصحيفتاه "الأحرار" و"الحقيقة" بالقوة في شارع الجمهورية.. كانت الأجواء في أعلى درجات التوتر والترقب والذعر.. كل العاملين بالحزب والجريدتين قرروا النضال في مواجهة جحافل الأمن.. تمترس الجميع داخل البناية تحت السلم وعلى السلالم، ومنهم من اختبأ في الطوابق العليا(!)
فجأة علا صراخ الصحفيات اللاتي كن يتابعن الموقف من الشرفات.. أسرعنا لاستطلاع الأمر.. فشاهدنا الجنود يقتادون عصام كامل، أو بالأحرى "يجرجرونه" بمنتهى الخشونة بالشارع، إلى أن تدرج الاقتياد إلى مرحلة السحل قبل إلقائه أو بالأحرى "حدفِه" داخل البوكس، وكان واضحا أن هناك أسبابا أخرى لاعتقاله بهذه الطريقة كما لو كان موَصَّى عليه؛ لجرأته الصحفية التي جاوزت الخطوط الحمراء.
كان التنكيل بعصام مستمرا، بينما كنا نحن مناضلو البلكونات، نتابع المشهد من شرفات الحزب وجريدتيه.. قيادات الحزب يومها كما يقول المصريون "فص ملح وداب"، اللهم إلا حلمي سالم الوحيد الذي كان موجودا على ما أذكر.. وعندما لجأنا إليه باعتباره أحد القيادات التاريخية لحزب الأحرار، كان يقول إنه يحاول الاتصال بمصطفى بك مراد، رئيس الحزب، ويبدو أنه مع الرئيس مبارك في مكان ما.. نقول له يا عم اعمل أي منظر؟، يقول باتصل أهو!.. كل هذا وسحل عصام كامل مستمر بنجاح ساحق.
يوم الموقعة حدث شيء في غاية الغرابة والطرافة.. عندما اقتربت الموقعة من نهايتها، وكل شيء في طريقه للهدوء.. كان الأمن قد احتل السلالم والمقر، وبدأ في اقتياد الصحفيين المحتجين إلى أسفل.. منهم من انصاع ومنهم من احتج على استحياء.. غير أن بعضهم رفع نبرة الاحتجاج، فكان لا بد من بعض الخشونة الأمنية.. أمسكوا بأحدهم وكنت أراقبه بدهشة وشغف شديدين؛ حيث ظل طوال المعمعة يردد بأعلى صوته هتاف الإخوان الشهير "الله أكبر ولله الحمد".. يصمت قليلا ثم يعود للهتاف في مكان آخر على السلم المظلِم، وسط بعض الصحفيين الثائرين، وهكذا كان يفعل طوال أحداث الهجوم.. وعندما أبدت القوات خشونتها أمسَكَ أحد الجنود بالزبون المذكور وأحكم قبضته عليه، ومع ذلك استمر هتافه "الله أكبر ولله الحمد".
تطور الأمر إلى مد اليد، وكلما هتف يضربونه على قفاه، يهتف فيضربونه، استمر في الهتاف إلى أن صاح فجأة وهو على وشك البكاء "الله أكبر ولله الحمد يا ولاد دين الـ...!!!!".
أيه الحكاية؟.. الحكاية أن الزبون كان جديدا على إحدى صحف الحزب، ويبدو أنه كان عضوا عاملا في "جمعية أصدقاء الأمن"!، على غرار جمعية أصدقاء السائح!.. كان الاتفاق معه أن يرصد الأفراد الأكثر حماسا، والمحتمل تصديهم للقوة الأمنية أثناء عملية الإخلاء، وأن يرصد المشتبه في انتمائهم للتيارات الإسلامية بالذات، وكان وجودهم واضحا في حزب الأحرار وصحفه وقتها "إخوان على جماعة إسلامية على جهاد على تبليغ ودعوة على ماليش دعوة.. إلخ".
المهم أن الأفندي كان يتنقل من آن لآخر على السلالم، وعندما يصل إلى مجموعة من المطلوب رصدهم يهتف "الله أكبر ولله الحمد"؛ كي يلفت انتباه رجال الأمن إلى مكان وجودهم، ثم يصل إلى مجموعة أخرى ويهتف وهكذا.. وعندما أوشكت مهمة الأمن على الانتهاء كان هناك بعض "التَّتْنِيح" من عدد قليل من المحررين، فاقترب منهم وهتف ليوجِّه الجنود إلى مكانهم، فوصل إليهم رجال الأمن واقتادوهم بقسوة واضحة، ومن بينهم ذلك الزبون، فأراد أن يلفت انتباههم إلى أنه "صديق"، فردد الهتاف المتفق عليه كي يفهموا حتى يسلم من السكع، لكن الجنود لم يكن لديهم علم بالإشارة أو ربما نسوها، فاستمروا في أداء مهمتهم مولين له "الطرشة"، كل هذا وهو يهتف لعلهم يتوقفون عن التلطيش الذي أخذ في التصاعد ولكن دون جدوى، وعندما شعر باليأس وشدة الألم كاد يبكي ثم هتف "الله أكبر ولله الحمد يا ولاد دين الـ.....!".
كل لحظة وعصام كامل وجميع قيادات وصحفيي وصحفيات وإداريي وإداريات "فيتو" والعاملين بها "تِمًا" بخير وسعادة، ومن نجاح إلى نجاح، وعقبال العام الخامس بعد المائة.. وأنا وأنت.