رئيس التحرير
عصام كامل

بعد جنينة.. حاكموا محاربي الفساد


بدت ردود أفعال برلمانيين وسياسيين وإعلاميين من عينة ما قبل يناير 2011، تجاه المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، عقب صدور تقرير لجنة الرئيس السيسي لمراجعة تصريحات جنينة بشأن تكلفة الفساد ببعض قطاعات الدولة، أقرب إلى الحرب الممنهجة والمرتبة ضد كل شيء منظم في مصر وهو شحيح، خصوصا أن من دعوا إلى إقالته ومن سعوا إلى جمع توقيعات نواب لإحالته إلى النيابة العامة، لم تخل سيرة أعمالهم من مواقف لا تتفق وأسمى مبادئ الشفافية والنزاهة "السياسية" على أقل تقدير.


وبدءًا بالتصريحات التي رُوجت بشأن دراسة للجنة شكلها رئيس الجهاز المغضوب عليه من هؤلاء وأولئك، التي لم تسلم من مبالغات اضطر معها جنينة إلى الرد عليها بمساحات لم تتناسب وحجم المغلوط من المعلومات، تجد قرار تشكيل لجنة من مسئولي وزارات تتبع السلطة التنفيذية مثل "الداخلية، التخطيط، العدل، المالية، هيئة الرقابة الإدارية، ونائب رئيس جهاز المحاسبات"، أقرب إلى محاولة رد الفعل الجماعي من السلطة التنفيذية على جهاز رقابي، ربما أتى رئيسه بما لا يطيق النظام، خصوصا أن خطة إبراهيم محلب ولجنته الحكومية لمكافحة الفساد ودعم الشفافية وإستراتيجيته التي أطلقها قبل عام وشهرين، لم تعلن أي نتائج دورية بشأنها حتى الآن، كما أن تقارير لجنة دعم الشفافية والنزاهة التي انحازت بتقريرها الثاني في 2008 إلى حقائق ووقائع تتعلق بفساد الكبار ومؤسسة الفساد في دواوين الدولة، تم تأميم تقاريرها منذ 2009 - 2010 قبل أن تغلق أبوابها تماما بعد ثورة يناير 2011.

المعنى في محاولة تفسيري ردود أفعال السلطة التنفيذية والساسة والنواب والإعلاميين إياهم، على تصريحات جنينة ودراسة جهازه، التي قال إنها شملت 3 سنوات سابقة تقريبا، شهدت مظاهر من الفساد ببعض قطاعات الدولة وصلت تكلفته 600 مليار جنيه، بينما لم تشهد إحالات ملفات من قبل الجهاز إلى النيابة العامة حول مخالفات ضبطها بالفعل أي إجراءات، أن السلطة التنفيذية وشخصيات لها أصوات عالية وبرلمانا لم يباشر دوره الرقابي حتى الآن، ولم يمارس كثير من أعضائه التشريع من قبل، أطراف لا نية لديها للحديث عن معالجة حقيقية تامة لأخطر ما يهدد نظام ما بعد 30 يونيو، وهو الفساد.

الخطورة في موقف لجنة مراجعة تصريحات جنينة، والهجوم على الرجل بعد تعليقها ورد فعل الجهاز عليها، والدعوات لإقالة المستشار هشام ومحاكمته، ونقل تبعية جهاز المحاسبات لإحدى الوزارات السيادية - حسب بيان إحدى المنظمات الحقوقية - أن مؤسسات الدولة بعد أن اكتمل شكلها أمام العالم بإتمام خارطة الطريق، بدت كأنها في حالة دفاع عن النفس، وحرب متبادلة مفتعلة، وبحث عن حصانة غير مبررة من مساءلة أو محاسبة.

أما تعليقات اللجنة ذاتها على تصريحات ودراسة جهاز "جنينة" بشأن فاتورة فساد قيمتها 600 مليار خلال 3 أعوام، فجاءت مثالية للغاية، وهي لجنة غير قضائية ولا تمثل وجهة نظرها حكمًا، ألفاظا معبرة عن أحكام على الدراسة بأنها استخدمت تضليلًا وتضخيما للأرقام، وافتقدت المصداقية بذكر تواريخ لوقائع فساد سابقة، والإغفال المتعمد لإجراءات اتخذت حيال وقائع ذكرتها تقارير سابقة للجهاز، وإساءة توظيف الأرقام والسياسات لإظهار إيجابيات بشكل سلبي، وإساءة استخدام كلمة الفساد في دراسة أُعدت بمشاركة مؤسسات أجنبية بطريقة تسيء لاقتصاد الدولة وفرص الاستثمار، بخلاف تلقي اللجنة شكاوى من داخل الجهاز بشأن سياسات ومقترحات تتعلق بغياب العدالة والشفافية.

وبناءً على تقرير اللجنة، وافق رئيس الجمهورية على إرسال التقرير لرئيس مجلس النواب "المنشغل بمراجعة مئات القرارات بقوانين"، وتكليف اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد برئاسة رئيس الوزراء "التي لم نسمع عن دور لها في مواجهة أي فساد منذ عام مضى"، بمراجعة بنود دراسة "المحاسبات" تفصيلًا، والتأكد من اتخاذ الإجراءات تجاه كل واقعة!!

تخيل أن قضية واحدة من حزمة قضايا بوزارة واحدة كالزراعة، هي قضية مخالفات أراضٍ مستهدفة بالاستصلاح حولها مستثمرون إلى منتجعات وفيلات وملاعب جولف، صدرت بشأنها قرارات تغريم شركاتهم مبالغ وصلت 150 مليار جنيه خلال نفس السنوات الثلاثة التي شملتها دراسة "جنينة" عن بعض دواوين الحكومة، ولم يتم تحصيل أكثر من 31 مليار جنيه فقط حتى الآن، ولم تراجع لجنة رئيس الوزراء المنوط بها مكافحة الفساد ولا الجهات الرقابية، طرق تحصيل تلك الأموال وأسباب تأخرها، ثم تواجه لجنة تنفيذية من يعلن أرقاما تقديرية لفاتورة الفساد بتقرير لم يستغرق إنجازه أيامًا.

قُم بإحصاء 10 عينات عشوائية لقضايا مماثلة، وأضف إليها أموالا مهربة للخارج، وأموالا أُنفقت على لجان لاستردادها دون عائد، لتتأكد أن أزمة تصريحات جنينة ودراسته لا تزيد عن حرب أجهزة ومؤسسات، في وقت نبحث فيه عن إنقاذ الدولة من عدو أكبر من خطر الإخوان، اسمه الفساد.

إذا كانت الحكومة وأجهزتها منزعجة من ذكر سيرة الفساد، وتعتبر تكرار الحديث عنه متاجرة بها، فهذا مؤشر خطر على قراءة نواياها، يجعل المواطن يشعر بأنه سيظل وحده متحملًا فاتورة مخالفات القانون ونهب المال العام من قبل من هم أعلى من المساءلة، وسيكون رد فعله أسرع مما تتخيل السلطات والأجهزة، إما بتجدد أسباب الثورة أو الانخراط في مناخ مفسد يفرض ذاته على الجميع، بوصاية من لا يريدون محاربة عدو واضح ويتحالفون مع قواه ويحمون بقاءه، مناخ ستُنصب فيه المحاكمات لهشام جنينة وغيره من محاربي الفساد أو المنوط بهم الإبلاغ عنه، وليحيا هؤلاء بلا حماية، ولتنهش كلاب اللصوص أجسادهم.
الجريدة الرسمية