الهوية الحقيقية
شَغَل موضوع الهوية المفكرين فى مصر منذ العصر الحديث . وبالضبط منذ بدء النهضة الحقيقية مع محمد على الذى كان يعرف أنه وصل إلى حكم بلد قادم من عصور تخلف طويلة . كان طبيعيا أن ينظر حوله إلى مصدر ارتقاء الأمم . لم يكن حوله غير أوربا . فالعالم العربى كله يغرق فى تخلف كبير . انفتحت الأبواب على أوربا . ولم يكن ذلك غريبا على مصر التى شهدت عشرة قرون قبل دخول الإسلام مجالا حيويا للأوربيين هى فترة الحكم البطلمى والرومانى .
كانت من هذه القرون سبعة قرون وصلت فيها مصر إلى مكانة رفيعة كانت فيها الإسكندرية عاصمة العالم وسميت كلها بالعصر الهيلينستى , أى الذى امتزجت فيه حضارة الغرب بالشرق وسميت أيضا بالعصر السكندرى .
كان مفتاح النهضة الجديدة مرسوما سلطانيا بحرية العبادات والأديان . لم يعد هناك اضطهاد لأحد بسبب دينه . صارت مصر ملاذا لكل المضطهدين فى العالم وراحوا مع المصريين يبنون البلاد اقتصاديا واجتماعيا .
لم يتخل محمد على عن دكتاتوريته لكنه أراد نهضة يحقق بها رغدا لمصر حقا وقوة لنفسه، حتى إنه كاد يهزم الدولة العثمانية نفسها لولا تدخل القوى الكبرى وقتها وهزيمته وفرض معاهدة لندن عليه عام 1848 التى قلصت من مشاريعه وجيشه وفرضت عليه شروطا بالانعزال داخل مصر . لكن كان المصريون قد عرفوا طريق النهضة .
وكان السؤال عن هوية مصر قد صار يشغل النخبة وتبلور فى شعار (مصر للمصريين) .
لم يلتفت الشعار إلى ما يبدو اليوم معضلة يعرضها التيار الإسلامى باعتبارها نهاية العالم . أى لم يقر الشعار أن مصر إسلامية . هل يحتاج المسلم إلى أن يعلن إسلامه . ولم يقل الشعار: إنها عربية؛ لأنها بالفعل تتكلم لغة العرب . لكن الشعار وهو يعرف أن هذه مسلمات يستدعى أيضا معنى أنها ليست للغزاة الأجانب، وبخاصة بعد الاحتلال البريطانى .
وظلت مصر بشعارها تقاوم الاستعمار وتتقدم سياسيا واجتماعيا وثقافيا حتى جاءت ثورة يوليو ورفعت شعار القومية العربية الذى كان قد بدأ قبل ذلك فى بعض الدراسات والأفكار. وكان الغرض منه إقامة دولة كبرى فى الشرق الأوسط . لم يكن ذلك ممكنا فى عالم لا تريد القوى الكبرى فيه غيرها .
وكانت هزيمة 1967 بداية النهاية لهذه الفكرة . لكن أكبر خسارة حدثت هو اختفاء شعار مصر للمصريين . صارت العروبة قبل مصر رغم أنها موجودة فى قلب المصريين ولغتهم . ثم لأسباب أخرى على رأسها إنكار الديمقراطية ومحاولة تحقيق الدولة العربية الكبرى بالدكتاتورية , صار التيار الإسلامى هو البديل بعد ذلك . وهو بدوره يرى فى الديمقراطية شيئا لا معنى له ويعمل أنصاره على تحقيق دكتاتورية ألعن من دكتاتورية القوميين, ومعهم هذه المرة شعار الكفر لخصومهم والإيمان لهم.
لا يتعظ أحد من درس التاريخ وهو أنه دون ديمقراطية تنتهى كل المشاريع مهما كان بريقها وإغراؤها . لكن نحن الآن فى منعطف جديد يجعلنا بحق على الطريق الحقيقى للتاريخ الذى تصنعه الشعوب وليس النظم . وما يحدث فى مصر أمامنا يمكن تلخيصه في أن الأمة الآن تصنع هويتها بالشكل الصحيح .
فالصراع الآن ليس بين النظم الحاكمة والشعب , لكنه الشعب نفسه يدخل حلبة الصراع . الإسلاميون الدكتاتوريون الآن يصارعون الثورة ولا يعرفون أنه انتهى عصر الدكتاتوريات .
ومن ثم يمكن القول: "إن مصر الجديدة ستكون حقيقية بعد هذا الصراع الذى يحدث حولنا, وإن هوية مصر تتشكل الآن بيد الشعب نفسه. وهكذا تتكون الأمم وتكون الهويات .
إنها معركة طويلة، لكن الديمقراطية فيها ستنتصر وسيكون المصريون فى النهاية مصريين بحكم الموقع والتاريخ، يعرفون قيمة مجالهم الحيوى فى العالم العربى بحكم اللغة، ويؤثرون فيه أكثر مما يتأثرون به، وفى العالم بحكم الحدود وبحكم صغر العالم كله الذى صار فى يد أى إنسان عاقل . ويضعون الدين فى مكانه الحقيقى . القلب وليس الشارع .
ibrahimabdelmeguid@hotmail.com