مصر الثلاثينيات كانت أكثر سماحة
كانت مصر في الثلاثينيات من القرن الماضي، أكثر سماحة في تقبل الرأي الآخر، وعندما صدر كتاب بعنوان «لماذا أنا ملحد؟» عام ١٩٣٠ يعارض مؤلفه الديانات السماوية ويعلن أنه يكفر بها، لم يحل علماء المسلمين دمه، ولم يسحله الناس في الشوارع كما حدث منذ سنوات معدودة في إحدى قرى محافظة الجيزة؛ حيث هاجم أبناء القرية منزلا تجمع داخله عدد من أتباع المذهب الشيعي ،وقاموا بسحلهم في شوارع القرية وهم يهتفون «الله أكبر».
لم تسفر تلك الجريمة البشعة عن تخلي المسلمين الشيعة عن أفكارهم، وإنما استغلها أعداء الإسلام للهجوم على الدين الحنيف، وبادرت المنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان بإدانة تلك الجريمة البشعة، والتنديد بمرتكبيها.. وتدين صمت الدولة عن محاكمة المجرمين الذين ارتكبوها.
وفي الخمسينيات من القرن الماضي، كتب المفكر مصطفى محمود سلسلة مقالاته في مجلة «صباح الخير» بعنوان «حوار مع صديقي الملحد»، أعلن خلالها عن عدم إيمانه بالأديان، ثم تم تجميع المقالات في كتاب.. تمت طباعته أكثر من مرة واطلع عليه آلاف القراء.
تصدى المثقفون في الثلاثينيات لتفنيد الأفكار التي وردت في كتاب «لماذا أنا ملحد؟»، وتعددت الكتب والمقالات التي تدحض ما جاء به من أفكار وتكشف عوارها، ورد أحدهم بكتاب آخر يحمل عنوان «لماذا أنا مؤمن؟».
ولو أن الدولة حاكمت مؤلف الكتاب الأول، لمنحته بطولة زائدة ودفعت بعض المواطنين للتعاطف معه، وربما الاقتناع بأفكاره، وأنها صحيحة بدليل أن الدولة تسجنه.
أما في الخمسينيات، فقد أثارت كتابات مصطفى محمود حوارات واسعة بين القراء.. وعقدت لطرحها ندوات عديدة تناقش ما ورد بها من أفكار بكل حرية.
والنتيجة تراجع مصطفى محمود عن كل ما جاء في كتابه من دعوة للإلحاد، بل تحول إلى مدافع عن الأديان، وساهم في إقامة مسجده الأشهر بين المساجد المصرية، ولا بد أن الرجل قد عانى كثيرا في رحلته من الشك إلى اليقين، وعبر عن تلك المعاناة في العديد من مقالاته وكتبه.
وعندما نقارن بين ما كان يجرى في الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي، من تقبل للرأي الآخر.. وبين ما يجرى الآن من رفض مطلق للمخالفين في الرأي، قد يصل إلى الحكم عليهم بالسجن كما حدث مع الباحث الجاد إسلام بحيري، الذي تصدى بشجاعة لتخليص تراثنا الإسلامي مما علق به من أفكار تتعارض مع الإسلام الصحيح، فصدر الحكم بسجنه لمدة عام، وفق قوانين لا تتعارض مع الدستور، ولا يملك القضاة إلا أن يطبقوها بحذافيرها.
وليس جديدا القول إن بحيري لم يحمل مدفعا أو بندقية، وإنما طرح أفكارا يتفق حولها البعض.. ويختلف معها غيرهم.. ولا يمكن حسمها إلا من خلال الحوار الصريح الذي يكشف عن صدقها.. أو يتيح لمعارضيها الفرصة لتفنيد الأسس التي قامت عليها، ما يساعد الرأي العام على إدراك الحقيقة.. وهو ما لم يحدث في التعامل مع أفكار بحيري.. ويدل على أن مصر الثلاثينيات كانت أكثر سماحة في تقبل الرأي الآخر.