طلعوا القمر.. وطلعنا الهرم!!
في القرن السابع عشر، توصل "جاليليو" إلى أن نظرية اليوناني "كوبرنيكوس" في ثبات الشمس، ودوران الكواكب حولها صحيحة.. كان فكرًا جديدًا.. وجديرًا بالاهتمام، لكن "الدوجماتيك" من رجال الدين، الذين كانوا يحتكرون فكرة دوران الأجرام السماوية، بما فيها الشمس، على أساس تفسيرات الكتاب المقدس، اتهموا "جاليليو" بالإلحاد.. وحولوه إلى محاكم التفتيش بوصفه واحدًا من الهراطقة والمجدفين.
"الدوجما" لفظ يوناني، معناه الأول "حقيقة" أو "مبدأ".. ثم حولتها المجامع المسيحية المقدسة إلى لفظ مرادف "للحقيقة الوحيدة" أو "المبدأ الصحيح"، يخرج كل من يخالفه من المسيحية.. تمامًا كما يوصم في الإسلام منكر "المعلوم من الدين بالضرورة".. بالكفر.
"الدوجماتيكية" كارثة، تماما مثلما الأصولية الدينية مصيبة.
"الأصولية"ا شتقوها من "الأصول"، وهو تعبير إنجيلي مأخوذ من مصطلح "الأساس الديني الصحيح".. والأصوليون هم الذين على استعداد لخوض أي معارك؛ حفاظا على "أصول الدين" كما يرونها.
الفكرة لدى الأصوليين أن حقائق الإيمان، وافتراضات المفسرين الذين ظهروا قبلهم لا يمكن أن تخضع للنقد أو النقاش، حتى لو تطورت الظروف وتغيرت المجتمعات.. وظهر ما يستلزم التغيير.
مثلا رفض الأصوليون المسيحيون أفكار مدارس "نقد الإنجيل"، التي ظهرت نتيجة ملاحظة الاختلافات في تواريخ وأسماء المدن بالترجمات المختلفة للكتاب المقدس، ورفضوا مناقشة وجهات نظر نقاد الإنجيل في ضرورة اعتبار الكتاب المقدس تسجيلًا لتطور تاريخي ديني.
رفضهم لأي تأويلات جديدة للنص الديني، هو الذي أدى لاستمرار الصراع في أوربا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، بينهم وبين مدارس العقلانيين.
فالعقلانيون من جانبهم، اعترضوا على كثير من المسلمات لدى رجال الدين، معتبرين أن إعادة فحص التراث الديني كله، على أساس رؤية جديدة للكتاب المقدس، لا يمكن أن يكون إثمًا.. ولا خروجًا على الدين.
تمسك الأصوليون بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، وما التف حوله من تراث صنعه رجال قبلهم، ورفضوا الاجتهادات العقلية.. بينما رفض "العقلانيون" التمسك بحرفية تفسيرات الكتاب المقدس القديمة؛ لأنهم رأوا أن إعادة تفسير نصوصه وفقًا للمنطق واجبة.
وفيما ظل الصراع مشتعلا في أوربا، ظهرت حركة إصلاح ديني مؤثرة قادها "مارتن لوثر"، الذي طالب بإعادة تقييم الأصول الدينية.. وشن "لوثر" هجومًا شديدًا على عصمة الكهنة والبابا، وعلى رجال الكهنوت كلهم.. قال إن رجال الكهنوت كثيرًا ما يلعبون بالعامة؛ لأنهم وحدهم أصحاب سلطان تأويل النص.. وهم يتلاعبون أيضا بالألفاظ والمفردات، وأحيانًا بالحقائق.. ويقنعون الناس، ثم فجأة يظهر أن الكهنة ليسوا على حق، وأن طريقتهم في الاستدلال في كثير من المسائل لا تكون صحيحة.
في إحدى خطبه، قال لوثر إن احتكار البابا ورجال الدين تأويل الإنجيل لا يجب أن يكون مسلمة دينية؛ لأنه من حق جميع المؤمنين تأويل الآيات المقدسة، على أن تبقى تلك التفسيرات اجتهادات قابلة للرد في أزمان تالية سواء بالحذف أو الإلغاء.
أضرت "الدوجماتيكية" بالعقائد والأديان.. ورغم الحركات العقلانية الكثيرة التي دخلت في صراع شديد مع الدوجماتيك، فإن "احتكار الحقيقة" ظل سمة أساسية من سمات المجتمعات الأصولية.
إسلاميًا، كان احتكار الحقيقة هو الذي أدى بالمشايخ المسلمين إلى إعلان إغلاق باب الاجتهاد في الإسلام في القرن الرابع الهجري.. بلا سبب ولا منطق.. ولمّا فعلوا، دخل المسلمون عصر "التقليد"، فتم الاكتفاء بالأدلة الشرعية، والأحكام الدينية التي شرعها الأولون، فزاد التعصب وتعالت نبرة "التخويف" والإرهاب، في الوقت الذي كان فيه معظم الحضارات لا تؤمن بحقيقة مطلقة، أو بنظرية واحدة.. حتى في الدين.
طلع أبناء الحضارات الأخرى القمر.. ونحن طلعنا الهرم.. نركب خيل ظهرًا، وننام في الكباريهات.. حتى مطلع الفجر!!
@wtoughan twitter:
wtoughan@hotmail.com