«الأهرام» في عيدها المائة والأربعين
ربما لا نجد تعبيرًا يليق بجريدة كالأهرام أكثر عمقًا من وصف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين لها، بأنها "ديوان الحياة المعاصرة"، وهو نفس التعبير الذي اقتبسه المؤرخ الكبير الدكتور "يونان لبيب رزق" كعنوان للتأريخ لصحيفة الأهرام، فهذه التسمية تحمل في طياتها عبق التاريخ، وليس المقصود هنا هو التاريخ السياسي فقط، فهو مجرد جانب محدود من الحركة التي رصدها الأهرام عبر تاريخه الطويل الممتد على مدى 140 عامًا، وإنما المقصود جوانب عديدة من التاريخ يمكن قراءتها بين صفحات الأهرام.
فإذا كانت الصفحة الأولى تحمل المانشيتات الكبيرة التي تقدم زادًا للتاريخ السياسي فإن الصفحات الأخرى تقدم بدورها في عناوينها الصغيرة معينًا لا ينضب للتاريخ المصري والعربي والعالمي، فالإعلانات تاريخ، والاجتماعيات تاريخ، والرياضة تاريخ، والبريد تاريخ، والوفيات تاريخ، ولعل قراءة أول إعلان في تاريخ الأهرام وكان في عددها الثاني المؤرخ في 12 أغسطس 1876 سنرى كيف كانت إعلانات ذلك الزمان، وإعلانات زماننا، والفارق الكبير بين المفردات يحدد طبيعة كل زمان:
وقد جاء في ذلك الإعلان (يوجد في أرض كوم النادورة ملك الخواجات كندينكو اصطبل للأجرة يسع نحو عشرين عربية وأربعين رأس خيل وفيه طلومبة ماء، فمن يرغب أن يستأجره فليخاطب بذلك الوكيل في الأرض المذكورة والأجرة متهاودة).
وبالقياس على ذلك كل الإعلانات وكذلك البريد والاجتماعيات والوفيات، حتى أن هناك دراسات كاملة كتبت عن صفحة الوفيات في الأهرام عبر تاريخها.
هكذا كانت الأهرام وهكذا عاشت وصمدت على مر السنين وكأن اختيار الاسم من قِبل أصحابها كان له من أثره نصيب فقد اختاروا اسم هذا الأثر الخالد على مر العصور والأعرق بين كل آثار العالم ليكون اسم الجريدة الواعدة فلم يكن ارتباطها بالعصر الذي تعيش فيه فقط، ولم تغب شمسها بعد عصر معين ارتبطت به كباقي الصحف.
فقد ارتبطت صحف مثل "التجارة" و"الوطن" بعهد الخديو إسماعيل والثورة العرابية ارتبط اسمها بجريدة "المفيد" وفي عهد الاحتلال الإنجليزي ظهرت صحف مثل المقطم والمؤيد واللواء والجريدة، ثم صحف مثل الجهاد والبلاغ وكوكب الشرق والمصري وجميعها اختفى أثرها إلا الأهرام الذي بقى قائمًا رغم تعاقب العصور كأعرق وأقدم صحيفة عربية.
شهدت «الأهرام» وعايشت بامتداد عمرها خديوين وسلاطين وملوكًا وعصور التبعية العثمانية وسنوات الاحتلال البريطاني وسنوات الاستقلال الوطني، وكذلك خمس ثورات كبرى في التاريخ المصري 1882 و1919 و1952 ويناير 2011 وأخيرًا ثورة 30 يونيو، وهذه التقلبات السياسية قضت بالفعل على صحف انطوت وانزوت وانتهت ولم تقاوم تقلبات العصور إلا الأهرام.
يبقى أن نتحدث عن فترة من أخصب وأهم فترات الأهرام بل والفترة التي لها العامل الأكبر في بقاء الأهرام كأهم صحف العالم حتى الآن وهى فترة رئاسة تحرير محمد حسنين هيكل للأهرام من 1957 حتى 1974، في هذه الفترة تم تأسيس وبناء الأهرام الحديث واستطاع تقديم تجربة فارقة في تاريخ الصحافة والثقافة وهذا الإيمان بالثقافة جعله ينشئ الدور السادس بالأهرام أو كما يسمونه «الدور الساحر»، ذلك الدور الذي جمع عمالقة الأدب والفكر من كل الاتجاهات السياسية والفكرية مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبهاء طاهر وغيرهم فقد كان يؤمن دومًا بأنك إذا كنت تتكلم عن ثقافة شعب فلابد أن تكون جميع تياراته موجودة.
فالبعد الإسلامي كانت تمثله الدكتورة عائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ، وتوفيق الحكيم كان يمثل فكرًا آخر هو الوسطية، ويوسف إدريس متأثر بالأدب الإسباني، وعبدالرحمن الشرقاوي يمثل اليسار، وهكذا فإن هذه المجموعة من كبار المفكرين والأدباء تمثل تكامل الثقافة المصرية وأيضًا تمثل الانفتاح والاحتكاك بكل ثقافات العالم الأخرى، من خلال التواصل مع كل المدارس الأدبية والفكرية، وكذلك أدخل في الجريدة فن الكاريكاتير بجذب صلاح جاهين من مؤسسة روزاليوسف للأهرام لتكون له نافذة ثابتة استمر في الرسم فيها حتى وفاته، بالإضافة إلى تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية.
تختلف أو تتفق مع الأهرام ولكنها تظل بحق بانوراما تاريخية لتاريخ مصر المعاصر وقبلة لكل كتاب مصر بل العالم العربي في المائة والأربعين عامًا الماضية يكفي أن تقرأ الكتاب الذي أصدرته مؤسسة الأهرام عام 1986 بمناسبة ذكرى مرور 110 أعوام على نشأة الأهرام، وكان عنوان الكتاب «110 عاما و110 كاتبا» وضم الكتاب 110 مقالات لـ 110 كتاب، وبمرور سريع على أسماء الكتَاب ستجدك أمام أهم كتاب مصر والعالم العربي في القرن العشرين كله فكانت بحق ديوانًا للحياة المعاصرة.
ربما لا نجد تعبيرًا يليق بجريدة كالأهرام أكثر عمقًا من وصف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين لها، بأنها "ديوان الحياة المعاصرة"، وهو نفس التعبير الذي اقتبسه المؤرخ الكبير الدكتور "يونان لبيب رزق" كعنوان للتأريخ لصحيفة الأهرام، فهذه التسمية تحمل في طياتها عبق التاريخ، وليس المقصود هنا هو التاريخ السياسي فقط، فهو مجرد جانب محدود من الحركة التي رصدها الأهرام عبر تاريخه الطويل الممتد على مدى 140 عامًا، وإنما المقصود جوانب عديدة من التاريخ يمكن قراءتها بين صفحات الأهرام.
فإذا كانت الصفحة الأولى تحمل المانشيتات الكبيرة التي تقدم زادًا للتاريخ السياسي فإن الصفحات الأخرى تقدم بدورها في عناوينها الصغيرة معينًا لا ينضب للتاريخ المصري والعربي والعالمي، فالإعلانات تاريخ، والاجتماعيات تاريخ، والرياضة تاريخ، والبريد تاريخ، والوفيات تاريخ، ولعل قراءة أول إعلان في تاريخ الأهرام وكان في عددها الثاني المؤرخ في 12 أغسطس 1876 سنرى كيف كانت إعلانات ذلك الزمان، وإعلانات زماننا، والفارق الكبير بين المفردات يحدد طبيعة كل زمان:
وقد جاء في ذلك الإعلان (يوجد في أرض كوم النادورة ملك الخواجات كندينكو اصطبل للأجرة يسع نحو عشرين عربية وأربعين رأس خيل وفيه طلومبة ماء، فمن يرغب أن يستأجره فليخاطب بذلك الوكيل في الأرض المذكورة والأجرة متهاودة).
وبالقياس على ذلك كل الإعلانات وكذلك البريد والاجتماعيات والوفيات، حتى أن هناك دراسات كاملة كتبت عن صفحة الوفيات في الأهرام عبر تاريخها.
هكذا كانت الأهرام وهكذا عاشت وصمدت على مر السنين وكأن اختيار الاسم من قِبل أصحابها كان له من أثره نصيب فقد اختاروا اسم هذا الأثر الخالد على مر العصور والأعرق بين كل آثار العالم ليكون اسم الجريدة الواعدة فلم يكن ارتباطها بالعصر الذي تعيش فيه فقط، ولم تغب شمسها بعد عصر معين ارتبطت به كباقي الصحف.
فقد ارتبطت صحف مثل "التجارة" و"الوطن" بعهد الخديو إسماعيل والثورة العرابية ارتبط اسمها بجريدة "المفيد" وفي عهد الاحتلال الإنجليزي ظهرت صحف مثل المقطم والمؤيد واللواء والجريدة، ثم صحف مثل الجهاد والبلاغ وكوكب الشرق والمصري وجميعها اختفى أثرها إلا الأهرام الذي بقى قائمًا رغم تعاقب العصور كأعرق وأقدم صحيفة عربية.
شهدت «الأهرام» وعايشت بامتداد عمرها خديوين وسلاطين وملوكًا وعصور التبعية العثمانية وسنوات الاحتلال البريطاني وسنوات الاستقلال الوطني، وكذلك خمس ثورات كبرى في التاريخ المصري 1882 و1919 و1952 ويناير 2011 وأخيرًا ثورة 30 يونيو، وهذه التقلبات السياسية قضت بالفعل على صحف انطوت وانزوت وانتهت ولم تقاوم تقلبات العصور إلا الأهرام.
يبقى أن نتحدث عن فترة من أخصب وأهم فترات الأهرام بل والفترة التي لها العامل الأكبر في بقاء الأهرام كأهم صحف العالم حتى الآن وهى فترة رئاسة تحرير محمد حسنين هيكل للأهرام من 1957 حتى 1974، في هذه الفترة تم تأسيس وبناء الأهرام الحديث واستطاع تقديم تجربة فارقة في تاريخ الصحافة والثقافة وهذا الإيمان بالثقافة جعله ينشئ الدور السادس بالأهرام أو كما يسمونه «الدور الساحر»، ذلك الدور الذي جمع عمالقة الأدب والفكر من كل الاتجاهات السياسية والفكرية مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبهاء طاهر وغيرهم فقد كان يؤمن دومًا بأنك إذا كنت تتكلم عن ثقافة شعب فلابد أن تكون جميع تياراته موجودة.
فالبعد الإسلامي كانت تمثله الدكتورة عائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ، وتوفيق الحكيم كان يمثل فكرًا آخر هو الوسطية، ويوسف إدريس متأثر بالأدب الإسباني، وعبدالرحمن الشرقاوي يمثل اليسار، وهكذا فإن هذه المجموعة من كبار المفكرين والأدباء تمثل تكامل الثقافة المصرية وأيضًا تمثل الانفتاح والاحتكاك بكل ثقافات العالم الأخرى، من خلال التواصل مع كل المدارس الأدبية والفكرية، وكذلك أدخل في الجريدة فن الكاريكاتير بجذب صلاح جاهين من مؤسسة روزاليوسف للأهرام لتكون له نافذة ثابتة استمر في الرسم فيها حتى وفاته، بالإضافة إلى تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية.
تختلف أو تتفق مع الأهرام ولكنها تظل بحق بانوراما تاريخية لتاريخ مصر المعاصر وقبلة لكل كتاب مصر بل العالم العربي في المائة والأربعين عامًا الماضية يكفي أن تقرأ الكتاب الذي أصدرته مؤسسة الأهرام عام 1986 بمناسبة ذكرى مرور 110 أعوام على نشأة الأهرام، وكان عنوان الكتاب «110 عاما و110 كاتبا» وضم الكتاب 110 مقالات لـ 110 كتاب، وبمرور سريع على أسماء الكتَاب ستجدك أمام أهم كتاب مصر والعالم العربي في القرن العشرين كله فكانت بحق ديوانًا للحياة المعاصرة.