رئيس التحرير
عصام كامل

حقًا إنه شعب مُنشكح!


تمتع المصريون عبر التاريخ بخصوصية ثقافية فريدة.. ميزته عن سائر شعوب الأرض.. وجعلته محط أنظار الباحثين في طبيعة "المزاج" الإنساني.. فمنذ أن تَشَّكل وعيه، لا يفكر في الحياة بقدر تفكيره في الموت.. ولم يرتبط ذلك بعقيدته الدينية.. فمثلًا لم يبنِ الفراعنة الأهرامات لمتعة الحياة، وإنما بنوها لرفاهية ما بعد الموت!


وللمصري طقوس خاصة للفرح والألم.. فمثلا تعقد مراسم الاحتفال بالزواج ليوم واحد.. بينما تعقد مراسم جنائزهم لثلاثة أيام، وقد تمتد لسبعة أيام في بعض المناطق.. وإذا كان بعض المصريين يحتفل بمرور أسبوع على الزواج.. فالكثير منهم يحتفل بمرور أسبوع على الوفاة، وهو ما يسمونه "الجمعة اليتيمة"، ومنهم من يحتفل على مرور أسبوعين.. والغالبية تحتفل بالأربعين أو الذكرى السنوية.. وقليل منهم من يعترف بأعياد الزواج أو الميلاد.. بل يحرمها أكثرهم ويعتبرها بدعة في الدِين!

وفي مقابل تعدد احتفال المصريين بذكرى الأموات التي يحيونها دائما بالبكاء والألم.. تتعدد احتفالات الغرب بأعياد البهجة.. فيجعلون لهم أعيادا للميلاد.. وأسبوعا للمولود.. وعيدا للأم وللحب.. ودائما ما يحتفل الغرب بميلاد العظماء.. بينما نحتفل نحن دائما بذكرى وفاتهم.. فلا ضير أن نعترف بأن "الغرب" تَعَلَّمَ قواعد لعبة "الحياة".. بينما تعلمنا نحن قواعد لعبة "الموت"!

لقد علمتنا ثقافتنا المتوارثة، أننا لا يمكن أن نعيش دون أن يكون هناك موت.. فكان الفراعنة عندما يجف "النهر" يتبرعون للموت بأجمل "فتياتهم"، معتقدين أنه لا حياة بدون ماء "ولا ماء عندهم بدون موت".. وأن الموت هو سبيلهم الوحيد لمجابهة الطامعين في البلاد.. وتَجَبر الحاكمين واسترداد حقوق المظلومين.. حتى صار الموت في الطوابير ثمنا لأسبقية الحصول على "رغيف" خبز أو "أنبوبة" بوتاجاز!.. ففي الوقت الذي يؤمن فيه المصريون بأنه لا توجد منطقة وسطى بين الحياة والموت، يؤمن الغرب بأن "نصف الحياة خير من الموت"!

لقد توارثنا ثقافيا أن الموت ثمن للحرية.. وأن ثوراتنا لن تنجح إلا إذا حَرَّقتنا وخرَّبنا وأرمَلنا ويَتَمنا.. ففي الوقت الذي يقدس فيه الغرب حياة مواطنيه.. نقدس نحن أرواح موتانا.. فتمنح حكومتنا شقة لأسرة الشهيد.. ومعاشا لأبويه.. وربما عمرة وحجة.. وقد يحصل أحد إخوته على وظيفة براتب معقول.. وإذا كانت الميتة أكثر "درامية" نطلق اسم الميت على أشهر شوارع المدينة.. وربما لو ظلوا أحياءً، مَا حصلوا على شقة ولا معاش.. ولا ذاق أهلهم حلاوة التمتع بمناسك العمرة والحج.. كأننا نحتاج من كل أسرة أن تقدم أحد أبنائها للموت.. كي تبقى هي على قيد الحياة!

وغالبا ما تتحدد ثقافة الموت والحياة لدى الإنسان بقيمته لدى النظام الذي يحكمه.. فلو مات في ميدان يطالب بإسقاط نظام الحكم.. تصبح "ديته" عند الحكومة خمسين ألف جنيه.. ولو مات من جراء إحدى حوادث إهمال الحكومة تصبح "ديته" خمسة آلاف فقط.. إذن فلا غرابة أن نسمع كل يوم مطالبات بانتفاضات ثورية جديدة تطالب برحيل النظام.. وللحكومة وللشعب الحرية في منح لقب "شهيد" لمن تحب.. فقد صارت الثورات في مصر بمثابة "ماراثون" للعبة الموت والحياة!

ورغم أن هناك من يرى أن حب الإنسان المصري للحياة، هو ما دفعه لبناء حضارة استمرت لسبعة آلاف سنة.. إلا أن هذه الحياة لم تعد تساوي الآن عندهم متعة "الفرجة" على قنبلة يحاول خبراء المفرقعات إبطالها!.. وكأن ثورة يناير وما أفضت إليه من ضحايا، قد جعلت المصريين أكثر إحساسا بفكرة الموت.. وأن الموت بات عندهم أسهل من الحياة.. فصاروا يعالجون المشكلات بمزيد من المشكلات.. ويواجهون الكوارث بمزيد من الكوارث.. وتخلوا عن ثقافة الادخار للغد، الذي ربما تصوروا أنه لن يأتي.. وأنه إن أتى فربما لا يكون الأفضل.. فَقَلت مجهوداتهم على العمل.. وأصبحت الحياة عندهم "لحظة" أرادوا أن يغتنموها بكل ما فيها.. الأمر الذي يجعلنا لا نستغرب استيراد المصريين في عام واحد لـ"قمصان نوم" بـ"800" مليون جنيه، و"ورق بفرة" بمليار جنيه.. وبعد ثورتين كبيرتين راح ضحيتهما ما راح بلغت تكلفة الفساد 600 مليار جنيه في نفس العام!

وعمومًا فإذا استمرت الحكومة والنظام في تجاهلها لجملة الإحباطات التي يعيشها المصريون الآن.. واستهانت باستهانتهم للموت.. وإن لم تتمكن الحكومة من إعادة تشكيل معنى الحياة لديهم.. فإن أرصدة "الديون" لن تتوقف عن التزايد.. وعجلة التنمية لن تتحرك إلى الأمام.. فالمصريون ليسوا بحاجة لوجبة "غذاء" بقدر حاجتهم إلى "أمل" يربطهم مجددًا بالحياة.. أو إلى "حلم" يشاركون في تحقيقه!.. واذا استمرت الحكومة في التجاهل.. فلن يكف الشعب عن الانشكاح!
الجريدة الرسمية