«معا على طريق محمد والمسيح».. رسالتهما الأولى ليست العبادات والطقوس بل إنهاض الإنسان وازدهار الحياة.. عيسى كافح لتخليص الضمير الإنساني من وصاية الكهان وكذلك فعل محمد
«وإنه فوق أرض فلسطين سيشهد التاريخ يوما إنسانا شامخ النفس مستقيم الضمير، بلغ الإنسان في تقديره الغاية التي جعلته ينعت نفسه بـ«ابن الإنسان»، وابن الإنسان هذا هو التعبير الإلهي، ويتركنا سلوكه ندرك إدراكا وثيقا الغرض العظيم الذي كان تحقيقه هو إنهاض الإنسان وازدهار الحياة.. وبعده بنحو خمسمائة وسبعين عاما تأخذ الأرض زينتها لتستقبل إنسانا آخر، ما كاد يُسأل عن أفضل الأعمال وأنقاها حتى يجيب: بذل السلام وأن تعيشوا عباد الله إخوانا».
الكلمات السابقة بدأ بها الكاتب الراحل خالد محمد خالد كتابه القيم «معا على الطريق.. محمد والمسيح»، ليوضح أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم جاء إلى الدنيا امتدادا للمسيح "عيسى" عليه السلام، وأن النور الذي أتيا به ينبع من مشكاة واحدة.
المؤلف يلخص فكرة كتابه «معا على الطريق.. محمد والمسيح» بتصديره حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنا أولى الناسِ بِعِيسَى ابنِ مريمَ في الدنيا والآخرةِ، ليس بَيْنِي وبينَهُ نَبِيٌّ، والأنْبياءُ أوْلادُ عَلَّاتٍ؛ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى، ودِينُهُمْ واحِدٌ) مركزا على الشطر الأخير وهو «والأنْبياءُ أوْلادُ عَلَّاتٍ؛ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى، ودِينُهُمْ واحِدٌ».
ويوضح المؤلف أن في طريق كل من "المسيح" والنبي محمد أغراضًا وأهدافًا سعيًا لتحقيقها، ولم يكن ما سعيا إليه مجرد شعائر ومناسك وعبادات؛ فكانت رسالتهما الأكبر هي إنهاض الإنسان وإزهار الحياة، حيث يقول: لقد جاء المسيح ومثله رسول الله “محمد” كل منهما لينيرا الطريق للعالم كله.. فـالمسيح يقول "لقد جئت لأخلّص العالم"، وفى الوقت ذاته محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أرسلني للناس كافة، وأرسلني رحمة للعالمين "وهو ما حدث، إذ تنتشر الديانتان المسيحية والإسلام اليوم في كل الأرض. ويتساءل المؤلف «الإنسان بكل صفاته وتناقضاته وعظمة أمانته وأحواله، كيف تراءى لـ"محمد" و"المسيح"، وما نوع الواجبات التي حملاها تجاهه، ما الأغلال التي حطماها عنه؟ ما الانتصارات التي حققاها له؟».
ويجيب على سؤاله بقوله: «أول ما يبهرنا في عنايتهما بالإنسان، ذلك الترديد الممعن لاسمه، والحفاوة الصادقة به، فـ"المسيح" ينعت نفسه بأنه "ابن الإنسان" حيث يقول "إن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس الناس؛ بل ليُخلّص".. ويتحدث القرآن الكريم عن الإنسان فيعطيه صفته الحقة كمحور لنشاط النبي وموضوع لرسالته: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»، «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملةا الإنسان».
وفيما يتعلق باهتمامات كل من النبي محمد والمسيح عليهما السلام، يوضح المؤلف هذا الأمر بقوله: «ثم إنهما لم يهتمّا بشيء مثل اهتمامهما بأن يحررا البسطاء من غفلتهم وسذاجتهم، ويحررا الذكاء الإنساني من الرؤى المغلوطة والأساطير الموروثة، فقد رفض الرسول "محمد" صلى الله عليه وسلم رفضًا قاطعًا تفسير الناس لكسوف الشمس يوم مات "إبراهيم" ابن الرسول؛ فقالوا إنها كسفت لموت "إبراهيم"؛ فرد عليهم بقوله: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته"، وللمسيح عليه السلام الكثير من المواقف المشابهة كذلك».
ويكمل المؤلف بقوله: ووضع الرسول جملة حقوق الناس البسطاء في حقــّين أساسيين ألا وهما: حق المعاش، وحق الضمير؛ فحق المعاش هو تحقيق كافة الظروف الاقتصادية التي تهيئ للإنسان حياة عادلة رغيدة، وحماية الإنسان من الاستغلال والنهب.
أما المسيح، وما زلنا نقلب صفحات كتاب «معا على الطريق.. محمد والمسيح»: فيقول: "الذين يأكلون بيوت الأرامل، ولعِلَّة يطيلون الصلاة، والذين يظلمون الفعلة والحصادين؛ بينما صياحهم قد وصل إلى رب الجنود"، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجف عرقه"، وكان من أشد الأفعال إغضابًا له - عليه الصلاة والسلام - استحلال أموال الناس بالباطل؛ فقد كان يتسامح مع الكثير من الذنوب والأفعال إلا هذه.
وفيما يخص الجزء المتعلق بـ"الضمير لدى الرسولين" يقول الكاتب الراحل خالد محمد خالد: أما حق الضمير؛ فنعني بالضمير هنا "الإنسان في وجوده الحقيقي"؛ فـ"المسيح" كافح كثيرًا لتخليص الضمير الإنسانى من وصاية الكهّان، الذين كانوا يتقاضون الأجور لمنح السكينة والطمأنينة وإعطاء الحريات للناس الأحرار أصلًا، كل شيء بثمن حتى البركة، فتجمّد الضمير لحساب أهواء وتقاليد وطقوس لا تسمح له بمناقشتها ولا باستحسان غيرها؛ حتى لو كانت خيرًا منها.. ويرضخ تحت وصاية غبية يقيمها حراس هذه التقاليد وسدنتها، وهكذا عاش الضمير في كبت قاتل لا يملك حق المعارضة ولا حق التعبير عن نفسه، ولم يكن الأمر يختلف كثيرًا في مكة وباقي الأرض قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
ويشير المؤلف إلى الرحمة في شخصية النبي صلى الله وسلم والمسيح، مستشهدًا بحادث الخاطئة التي أتوا بها للمسيح يزفّها الكهنة والجلادون؛ فيلقي عليها نظرة يلمح فيها الضعف الإنساني الكامن في كل منّا، ثم يرفع بصره إلى أولئك القُساة، وقد أمسكوا بالحجارة الحادة تأهبًا لرجمها؛ فيقول لهم كلمته المأثورة: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"، فاحتواهم ذهول وخزي، وتمثلت لهم خطاياهم، و"المسيح" بهذا لا يُبيح الإثم؛ بل يعلّمنا أن الخطيئة نفسها جزء من الأغلال التي يرسف فيها وجودنا، وعلينا ونحن نحررها أن نفطمها عن نزواتها، "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله، وأهلك نفسه أو خسرها".
ويشير أيضا إلى أنه في نفس السياق يأتي ذات يوم الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه، مستأذنًا في طرد واحد يعتقد أنه منافق يتظاهر بالإسلام ليؤذي المسلمين، ويخفي في نفسه شرًا عارضًا على الرسول طرد ذاك الرجل؛ فيسأل الرسول صاحبه: "هلا شققت عن قلبه؟!"، ويُكمل الرسول: "إن الله لم يأمرني أن أشقّ صدور الناس لأرى ما فيها"؛ فللضمير في شريعة "محمد" حرمة وحرية.. ويجهز الرسول صلى الله عليه وسلم على الوصاية على الضمير البشري، بإعلانه أن ليس لأحد وساطة بين العبدِ وربِّه؛ لأنه ليس أحد أحق بالوساطة من أحد، ولأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
ثم إنه يركّز المسئولية في يد الضمير: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}.. {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها}.. {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
ويتعاطف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأخطاء الإنسانية الطبيعية، مثلما فعل أخوه "عيسى" من قبل؛ حتى إنه يقول: "والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بآخرين يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم"، فـ"كل بني آدم خطّاء"، {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللهَ يجد اللهَ غفورًا رحيمًا}.
ويقظة الضمير تحتاج إلى فكر وتأمّل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يكونن أحدُكم إمَّعة، يقول: إذا أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت".
ولأن حياة الضمير تحتاج إلى رؤية ووعي ويقظة فإن الرسول طالما أوصى بهذا، فذكر عن ربه: "سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق"، وقال: "تفكُّر ساعة خيرٌ من عبادة سنة".