رئيس التحرير
عصام كامل

تأويلات ما تحت الوضوح


أن تتوسع "بي.بي.سي وورلد سيرفس" في جغرافية جديدة وفي ثقافية مختلفة، خبرٌ قد يبدو أن لا تأويلات له.. فهو نصٌ صريح واضح كطلقة قنّاص، يمتلك الأجوبة على الأسئلة الخمس التي ألفناها.


المعنى المباشر للخبر يختلف عن الدلالة العميقة له، توليد المعنى يتأتّى من التأمل في الدلالة، فالتعبير لا يضيره التحليل، على ما يذهب أهل اللغة.

ثمة طارئ اسمه "روسيا اليوم" هدد صُنّاع العقول في أوربا، والإنجليز في طليعتهم.. هددهم بصناعة وعي أوربي جديد.. والوعي بداية التغيير، وتشكيل هذا الوعي هو المطلب "الأسمى" لكل إعلام "هادف".

الحكومة البريطانية "الرشيدة" الموغلة في فهم سطوة الإعلام، أقلقها أن تحوز المحطة الروسية على مربعات جديدة في أوساط مشاهديها.

10 داوننج ستريت عبّر عن قلقه بتقديم نصف مليار دولار للمجموعة؛ لتتوسع الشبكة بلغات جديدة.

الحكومة البريطانية فضلت الإعلان صراحة "نهدف إلى أن نكون الدولة الرائدة في مجال القوة الناعمة، باستخدام مواردنا لبناء علاقاتنا وتعزيز نفوذنا في العالم".

البريطانيون شموا رائحة "سرقة العقول".. ارتعدوا من أنهم يخسرون مع حلفائهم الأمريكان حرب المعلومات العالمية مع الكرملين، وعليهم تقع مكافحة موجة "الدعاية المدعومة من موسكو"، التي تغطي الفضاء الأوربي شرقيّه وغربيّه.

الخدمة العالمية لـبي بي سي، قد تكون درة التاج البريطاني المعاصر، بعد أن تركت "بريطانيا العظمى" تاجها التقليدي في الهند.

البريطانيون يعتبرون الخدمة جزءًا من قوتهم الناعمة، ويفخرون بها، هل من "أوابد" معاصرة نفخر بها ونعلو؟

الجميل اليوم أن البريطانيين يتخلون عن كذبتهم الكبرى في الحياد.. أكثر ما لفتني نزع القناع، فأن يصرح "مارك تومسون" المدير العام الأسبق لهيئة الإذاعة البريطانية، بأن لا مكان للحياد اليوم في "ظل التغيرات العالمية وسيطرة الإعلام الجديد، وأن قواعد الحياد على شاشات التليفزيون أضحت قديمة ولا مكان لها اليوم"، هو أمر يكشف عن وعينا بطبقة سميكة غبية اسمها الحياد.

وصل الأمر بطومسون، إلى مطالبة قنوات بي بي سي بالتخلص من قواعد الحياد التليفزيونية القديمة، ومنافسة "فوكس نيوز" في استقطاب "المشاهد في عصر الإنترنت".

روسيا اليوم جذبت 700 مليون مشاهد.. وهي تتمدد اليوم إلى الجمهور الناطق بالإنجليزية من "ميلبانك" الضاحية اللندنية، وتعد العدة لقناتين ناطقتين بالفرنسية والألمانية خلال العامين المقبلين، تضافان إلى القناتين العاملتين حاليًا الإسبانية، والعربية.

لا أعرف هل تحقق لها ذلك لأن ثمة فراغا يحتاج إلى من يملأه؟.. أم أنها اقتربت من جماهير ملّت القنوات الأوربية الأمريكية عموما؟

سنوات مضت، ويكبر في داخلي رهاب الثنائيات.. لا يعكر صفوي سماع أننا ظاهرة صوتية فحسب.. يبقى مزاجي رائقًا إذا قرأت أن الآخرين يعملون اليوم على صناعة الغد.. لا أغص بأفكاري وهي تقارن بين "الستاتيك" الذي يلفنا من الماء إلى الماء، وبين صخب خلايا التفكير العاملة على ما وراء وراء الغد وبعده وبعده.

الآخرون يحيكون قوتهم الناعمة.. نحن نحيك الحاضر، فطالما أن اليوم "خمر" فلنترك الأمر للغد.. يحيك الآخرون مستقبلهم، في غفلة عنا.. نحن نشكو من فرط صحو، من إسراف الـ"نحن" في تفتيت المستقبل.. نحن نجهل المستقبل، والإنسان عدو ما يجهل.
الجريدة الرسمية