المشرع الأصيل والمشرع الفعلي
التشريع وظيفة البرلمان، واختصاصه الأصيل، فالقانون يصدر باسم الشعب، لصالح الشعب، من نواب الشعب المنتخبين بواسطة الشعب.
ولأسباب متعددة، قد يغيب البرلمان عن أداء دوره، وعن ممارسة وظيفته التشريعية، وحتى لا تتعطل مصالح الأفراد فإن الضرورة تقتضى أن يقوم رئيس الجمهورية بممارسة الوظيفة التشريعية بصورة مؤقتة، إلى حين أن يتمكن البرلمان من ممارسة اختصاصه التشريعى الأصيل، وقد بلغ إجمالي عدد القرارات بقوانين التي صدرت منذ عام 2013 وحتى نوفمبر 2015 في غيبة البرلمان عدد 507 قرار بقانون، منها 435 قرارًا بقانون تم إصدارها بعد حل مجلس الشورى بالإعلان الدستورى الصادر في 5 يوليو 2013، وقد ثار جدل شديد في الأيام الأخيرة حول حكم هذه القوانين، ومدى وجوب عرضها على مجلس النواب من عدمه.
ذهبت بعض الآراء التي طرحها فقهاء القانون الدستورى إلى أنه لا يجب عرض هذه القوانين على مجلس النواب، استنادًا إلى أنه في ظل الظروف الاستثنائية مثل الحروب والثورات التي تؤدى إلى تعطيل الحياة النيابية، رغم وجودها، سواء بين أدوار انعقاد البرلمان أو فترة حل المجلس النيابى وفقًا للدستور، فإنه يترتب عليها انتقال السلطة التشريعية، إلى السلطة التنفيذية، فإن الأمر يقتضي عرضها على المجلس النيابى فور انعقاده.
أما القرارات بقوانين التي تصدر في غياب الحياة النيابية، بسبب تعطيلها أو وقفها، فإنه في هذه الحالة يكون مجلس النواب غير قائم، أي لا يوجد برلمان أصلا، فلا يجوز عرض هذه القوانين عليه.
في حين رأى فقهاء آخرون وجوب عرض كل القوانين التي صدرت عن السلطة التنفيذية، على البرلمان باعتبار أنها صدرت جميعها في غيبة البرلمان ليقرر ما يراه فيها.
والواقع أن المادة 156 من الدستور فرقت بين حالتين، الأولى حالة الغياب المؤقت للبرلمان، حالة الغياب الدائم للبرلمان الغياب المؤقت للبرلمان، هو تعطل البرلمان عن مباشرة مهامه رغم وجوده، لأسباب مؤقتة، مثل العطلة البرلمانية، وهنا فإن الدستور أناط أيضًا بالبرلمان بإصدار القوانين، إذ قصر دور رئيس الجمهورية على دعوة البرلمان ليصدر ما يراه من قوانين طارئة لمواجهة حالة الضرورة.
أما الغياب الدائم للبرلمان، فهى التي عبرت عنها المادة 156 من الدستور بعبارة أن البرلمان غير قائم، أي لا يوجد برلمان أصلا، إذ أن معنى كلمة قائم في معجم المعاني الجامع، باق أو مستمر، فيقال مثلا وَجَدَ الْعَمَلَ قَائِمًا عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ، أي العمل مُسْتَمِرًّا بهمة، وهنا نظرًا لعدم وجود برلمان أصلا، يجوز للسلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية أن تمارس الوظيفة التشريعية وتصدر القوانين اللازمة، باعتباره مشرعًا فعليًا، يباشر أعمال الوظيفة التشريعية بدلا من المشرع الأصلى غير الموجود في هذه الفترة، فإذا عاد البرلمان وبدأ في ممارسة مهامه، تعرض عليه القرارات بقوانين لمناقشتها والموافقة عليها خلال 15 يومًا من انعقاد المجلس.
والمسألة مناط الإشكالية التي نحن بصددها، هي ضرورة أن يبت مجلس النواب في هذه القوانين جميعها خلال فترة زمنية ضيقة لا تتعدى 15 يومًا، مما دفع البعض إلى تبنى رأي بعدم وجوب عرض هذه القوانين على البرلمان، مستندين في ذلك إلى تفسير لوجوب العرض، المبينة بالمادة 156 بأنها تنظم حالة تعطل البرلمان المؤقت فقط عن ممارسة الوظيفة التشريعية، ولا تنطبق على حالة التوقف الدائم للبرلمان، وهو رأى يتعارض مع صريح نص المادة 156 من الدستور التي قصرت اختصاص السلطة التنفيذية في إصدار القوانين على حالة الغياب الدائم للبرلمان، أما في أحوال الغياب المؤقت للبرلمان فإن السلطة التنفيذية لا تملك إصدار قرارات بقوانين، إنما يختص بذلك البرلمان نفسه، الذي يجب على رئيس الجمهورية دعوته للانعقاد لإصدار القوانين اللازمة من خلاله.
والواقع أنه لا يمكن اعتبار مدة 15 يومًا ميعادًا تنظيميًا، قصد الدستور منه حث البرلمان على سرعة نظر هذه القوانين إذ يتعارض هذا التفسير مع ما ورد بالمادة 156 من وجوب أن يناقش البرلمان القانون ويقره أيضًا أي يوافق عليه خلال هذه المدة، ولذلك للتغلب على مشكلة هذه الفترة الزمنية القصيرة التي يجب أن يبت خلالها البرلمان في هذه القوانين، فإن الحل العملى الوحيد أن تعرض هذه القوانين على البرلمان، ويقوم باعتماد استمرار العمل بها واعتماد نفاذها في الفترة السابقة على انعقاده، فبذلك فقط يتم احترام حكم الدستور، وفي نفس الوقت نتجنب حدوث فراغ تشريعي مفاجئ ينجم عن سقوط كل هذه القوانين دفعة واحدة، فتضطرب أحوال المجتمع، ولن ينال ذلك من حق البرلمان في مناقشة هذه القوانين وتعديلها لاحقًا، فحق البرلمان في إلغاء أي قانون وتعديله حق مكفول دائمًا للبرلمان، ولا ينال منه اعتماد البرلمان هذه القوانين.