إعلام الردح.. لف وارجع تاني !
زمان وأثناء الثورة البلشفية في روسيا القيصرية قام شاعر روسي بتأليف مجموعة قصائد غزل وعشق في حبيبته جمعها في كتاب قام بطبعه لتوزيعه على الجمهور، فقامت السلطة الحاكمة بجمع هذا الكتاب من السوق، واستدعت الشاعر وحبيبته وأعطت لكل منهما نسخة من الكتاب، وقالت لهما هذا يخصكما وحدكما ولا يخص باقي الشعب في شيء، وصادرت باقي نسخ الكتاب.
وسواء كانت الحكاية المنقولة صحيحة أو مكذوبة فالرسالة واضحة فيها، والمعنى المقصود هو أنه في حياة الشعوب وأثناء فترات التحول لا يجب أن تطفو على السطح قضايا شخصية وظواهر سطحية تشغل الناس عن تحقيق النجاح في عملية التحول إلى الأفضل.
ورغم أن الكتاب لا يسعى إلى القارئ بذاته وأن القارئ هو من يسعى إليه فإن الرواية تلقى بظلال كثيفة وكئيبة على واقع إعلامنا الذي يسعى إلينا فأرضى نفسه علينا مستغلا رغبتنا الشديدة في المعرفة ومتابعة ما يحدث في حينه، لذلك كان يجب التوقف والتأمل طويلا في المشهد برمته.. فالحال أصبح يسر العدو ولا يسر الحبيب! وكنت قد كتبت في مقال سابق عن إعلام القبح وغسل السمعة، وكيف نجح الإعلام في قضايا الجنس والشعوذة وإثارة الفتنة، وتنجيم البعض وخسف الأرض بالبعض الآخر !
ومن إعلام القبح إلى إعلام الردح والتجريس وفرش الملايات على الهواء دون أدنى مسئولية سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية من مقدمي البرامج وملاك القنوات الخاصة، ففي الأسابيع الأخيرة انفجرت أكثر من ماسورة ردح بلدي في وجوه المشاهدين، وشهدت الشاشات حالة تردٍ وانحدار لفظي وأخلاقي وقيمي من بعض مقدمي البرامج بشكل غير مسبوق، حيث أشهر كل واحد منهم سيفه الخشبي في وجه الآخر ( وهات يا ردح ووعيد وتهديد.. وخليني ساكت على فضايحك، وخلي الطابق مستور.. ومش عاوز أنشرلك بلاوييك وفيديوهاتك..) والمُشاهد في حيرة.. هل هذا إعلام مسئول ؟ وهل هؤلاء يعملون من أجل الوطن كما يدعون ويتشدقون ؟ هل هؤلاء يحترمون المشاهد ويحترمون البيوت التي يدخلونها ؟
مقدمو البرامج هؤلاء على رءوسهم بطحات.. لذلك ما إن تحدث مشكلة بينهم نسمع الحكايات المسكوت عنها بينهم.. تابعنا الأزمة، وتابعنا كم الإسفاف والاتهامات المتبادلة بينهم والتي يشكل معظمها جرائم سب وقذف، وتابعنا لغة التحدي بينهم وفرد العضلات، وكل منهم يلمح بأن وراءه ظهرًا قويًا فلا مجال لضربه على بطنه !
حدث ويحدث ولن يتوقف هذا الهراء طالما لا توجد مساءلة ولا يقع عليهم عقاب..! وطالما تنتهي الأزمة بجلسة صلح وعشاء فاخر، وعفا الله عما سلف، ( وإحنا ولاد النهاردة، والمصارين في البطن بتتخانق بس مبتخرجش برة البطن.. والداخل بينا خارج..) ويعتذر كل منهما للآخر وتخلص الحكاية ثم يخرجون علينا ببجاحة وتقل دم يقولون خلاص الحكاية خلصت بعد أن شغلوا الناس بمشاكل شخصية وتصفية حسابات على الهواء.. يشتمني في شارع لمدة ساعة ويصالحني في حارة لمدة دقيقة! هذا هو إعلام الردح الذي لا يبذل جهدًا في توثيق خبر أو معلومة أو يتمهل قبل إثارة القضايا التي تشغل الرأي العام، والمدهش أن سدنة القانون هم من يتوسطون للصلح بينهم.. وعليه العوض في القانون الذي يطبق فقط على الغلبان !
وللأسف يخرج محام شهير بتقديم البلاغات للنائب العام على الهواء في مداخلات تليفزيونية ويقول خالد يوسف فقد الاعتبار ويجب فصله من البرلمان لأنه (إطرطش عليه خلاص ومينفعش).. يا سيادة المحامي هل هكذا يتحدث القانونيون دون بينة أو تحقيق ؟ ثم ماذا لو (طرطش عليك أحد دون بينة.. هل تفقد الاعتبار وتعتزل المحاماة ؟ مجرد سؤال.. وحتى في الردح هناك خيار وفقوس.. هل تختلف أزمة ريهام سعيد وفتاة المول عن أزمة موسى وخالد يوسف ؟
ويبقى المذيع أسامة كمال متفردًا يغرد وحده بعيدًا عن الإسفاف والابتذال ومسح الجوخ كإعلامي يدرك جيدًا المسئولية الوطنية والأخلاقية للإعلام.
m.elazizi@hotmail.com