رئيس التحرير
عصام كامل

مراكز التحكيم بين النصب والتدليس


على الرغم من أن مبدأ التحكيم ضاربة جذوره في حل الأنزعة عمومًا منذ عصور التاريخ الأولى، وعرفته وطبقته حضارات العالم القديم على اختلافاتها وانتماءاتها، إلا أنه مع تطورات الدولة الحديثة تسيَّد القضاء المسألة وتطورت تنظيماته وأدواره، وأصبح القضاء سلطة مستقلة من سلطات الدولة، وهو الأصل الدستوري والتشريعي لحل جميع المنازعات.. غير أن الملاحظ، أنه مع ازدياد العلاقات التجارية في القرن الماضي بين الدول أو ما بينها من كيانات كبرى، برز مبدأ التحكيم من جديد، حتى أصبح أحد أهم البدائل القانونية للقضاء فيما يتعلق بالنزاعات التجارية والاقتصادية.


وكان بالضرورة أن يصاحب ذلك تنظيم قانوني خاص من خلال الهيئات المتخصصة القائمة على تسوية المنازعات بوسيلة التحكيم بأنواعه المختلفة، وهو ما حدث بالفعل على المستوى الدولي من خلال عدد معتمد دوليًا من هيئات التحكيم، أهمها غرفة التجارة الدولية بجنيف، وغرفتا باريس ولندن، ومركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي وغيرها، كما صدَّرت قواعد التحكيم للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي.

إلا أنه مع بداية الألفية الثالثة، بدأت تظهر بعض المراكز والغرف التحكيمية على المستوى المحلي أو الإقليمي في بعض دول الشرق الأوسط وعلى رأسها مصر، تتولى زمام العديد من القضايا التحكيمية الصغيرة بين الشركات، ثم تزايدت بكثرة في السنوات الأخيرة، حتى أصبحت ظاهرة كارثية تهدد جوهر التحكيم في حد ذاته، وإهدار مبدأه الأساسي، كشفت مع واقع بعضها عن انتفاء ظاهرة الحياد التي هي العنصر الرئيسي الرافع من شأن التحكيم.

إن اختيار المحكم يتم عن طريق إدارات الهيئات التحكيمية، بقيده ضمن سجلاتها وتكليفه بمهام التحكيم في قضايا تحكيمية تتولاها هي عن طريق مشارطات التحكيم في العقود المختلفة، وأن المفترض المنطقي قيام تلك الكيانات باختيار المحكمين في قوائمها، بعد اختبارات واختيارات متأنية وقائمة على عنصر الدراسة والخبرات الفنية، بيد أن أغلب تلك الكيانات أصبحت في واقعها قائمة على فراغ من الممارسة التحكيمية الحقيقية من خلال عدم وجود قضايا التحكيم، وإنما ابتنت مكاسبها على أعمال عدة، أهمها إقامة الدورات التدريبية لاستجلاب أكبر عدد من الأشخاص الطامحين في مستقبل أفضل في مصر والعالم العربي، أو الساعين إلى جمع شهادات أو خبرات ورقية، دون أن تنظر إلى مستواهم التعليمي أو تخصصاتهم أو ثقافاتهم أو خبراتهم، وتوزيع الألقاب عليهم ما بين محكم أو مستشار أو قاض أو غيرها خلال أيام هي مدة هذه الدورات، وتدوين ذلك في شهادات وكارنيهات خاصة، وتستغل هذه الجهات أسماء الكثير من أساتذة الجامعات أو القضاة أو المتخصصين عمومًا في التحاضر بتلك الدورات.

بل وصل أحيانًا إلى قيام بعض تلك الكيانات بتوقيع بروتوكولات مع بعض الجامعات الرسمية الخاضعة لأحكام قانون تنظيم الجامعات، لما يسمى بالماجستير المهني أو التأهيلي؛ تحايلًا على درجة الماجستير العلمي الأكاديمي المتعارف عليه دوليًا، وأصبح بعض الحاصلين على ذلك يدونونه في خانة الوظيفة في بطاقات الهوية الرسمية، وكذا جوازات السفر من مستشار تحكيمي أو محكم دولي، أو ما تابع ذلك من مسميات، وهو ما جعل مستوى خبرات وكفاءة نسبة غير قليلة من المحكمين المقيدين في تلك المراكز في تدنٍ مستمر، ولعل سكوت أجهزة الدولة لسنوات عديدة على رقابة ذلك جعلت الأمور تتفشى، إلى الحد أن الكثير من هذه الكيانات أصبحت قائمة.

وعلى مجلس النواب القادم، سرعة إصدار تشريع حاسم يضع شروطًا قانونية حازمة في وضع شروط الترخيص للجهات القائمة على قضايا التحكيم واعتمادها مستقلة وفقًا لأحكام الدستور والقانون، وتقنين أو توفيق أوضاع الكيانات الموجودة بالفعل على الساحة، مع وضع ضوابط ومعايير رسمية لاختيار واختبار المحكم من خلال مجموعة من الإجراءات تؤهله لذلك، وتنشأ معها كوادر تحكيمية حقيقية متخصصة، وإلا فلننتظر تطورًا جديدًا يسحب الجميع إلى مفهوم خاص من النصب الجنائي المُقنَّع، يؤدي إلى كوارث اقتصادية تفوق بكثير ما تتكبده المؤسسات الرسمية المصرية من مليارات الدولارات في خساراتها لقضايا التعويض التحكيمية الدولية.

Poetgomaa@gmail.com
الجريدة الرسمية