دراما الجلاليب بين الحوثيين وجورج أبيض
عندما نجحت هوجة الحوثيين في السيطرة السريعة وغير المفهومة على دولة كاليمن مترامية الأطراف قاسية التضاريس، قلت يقينا سيفشلون.. فمن غير المعقول أن يسيطر على دولة جيش بجلاليب وبلاطى من البالة وشباشب بصباع!
مرت الأيام وهَلَّت بشائر سلامة توقعاتي بعد عملية عاصفة الحزم، وتقلصت مساحات سيطرة الحوثيين.
وعلى ذِكْر الجلاليب، طاف خيالي المشاغب بين كتائب الحوثيين بجلابيبهم وشباشبهم، واستَحْضَرْتُ ما يعتريهم من أزمات في لحظات الكَرِّ والفَرِّ، حسب ما يقتضيه سير المعارك.. فأتصور كتيبة كاملة من الضباط والجنود وقد وضع كل منهم ذيل جلبابه بين أسنانه وهو يسابق الريح فرارا من هجوم مضاد.. ثم استدعيت مشهدا تخيليا لمحاكمة عسكرية لضابط متخاذل.
في الجلسة.. الجميع بجلابيب، القاضي العسكري بجلباب، الضباط والعساكر بجلابيب.. الضابط المتهم بالجلباب أمام قائده بجلباب هو الآخر.. القائد يسرد الاتهامات التي تفضي عقوبتها إلى الإعدام.. الضابط يعترف ويطلب العفو، ثم يجثو على ركبتيه متعلقا بجلباب قائده، كما لو كان يتعلق بأستار الكعبة طلبا للغفران والعفو.
عند هذه اللقطة بالتحديد ضحكت حتى أدمَعَت عيناي.. إذ قفز إلى ذاكرتي حكاية سمعتها عن جورج أبيض أحد عمالقة رواد المسرح في القرن الماضي.. ومن مؤسسي مدرسة المبالغة في الأداء، وتقمص الدور لدرجة الانصهار في الشخصية.
في إحدى مسرحياته التاريخية، كان يقوم بدور كبير وزراء البلاط الملكي، الذي يتزعم مؤامرة لقتل الملك والإطاحة به.. بالصدفة الدرامية يكتشف الملك تلك المؤامرة بتفاصيلها.. وفي مشهد من أهم مشاهد المسرحية والذي يمكن اعتباره "الماستر سين" يستدعي الملك كبير وزرائه، ويغلق الباب عليهما، ويبدأ في سؤاله.. يسأله عن رأيه في الخيانة؟ فيقول الوزير حقارة.. وعن رأيه في الخائن؟ يقول الوزير حقير.. وعن رأيه فيما يستحقه من عقاب؟ يقول القتل يا مولاي.. ثم يصل الملك إلى السؤال الأهم وما رأيك لو كان الخائن من أقرب المقربين لمن خانه؟
هنا أدرك كبير الوزراء أن الملك قد اكتشف المؤامرة وأنه ــ أي كبير الوزراء ــ لن يفلت من المقصلة.. لحظة درامية بالغة الروعة، وربما بسببها قبل جورج القيام بدور الوزير الخائن..المهم عندما اكتشف جورج بك كما كانوا يلقبونه، أن الملك هرشه، صمت ولم يرد على السؤال، لتكسو وجهه علامات الانكسار شيئا فشيئا، ويتحول من وقفة الخيلاء المشدودة، ليبدو كما لوكان وردة تذبل ببطء، بينما الملك منتصبا في شموخ المسيطر على الموقف.
ثم يدخل جورج في مشهد التوسل (وأرجوك خذ بالك من دور الجلاليب هنا).. يبدأ في الإمساك بثوب الملك من جنبيه برفق وهو يقول مولاي ومليكي لقد أخطأت وأنا عبدك وخادمك، إنها الهواجس الشريرة "حاجة كده زي الشيطان شاطر".. ينزل جورج رويدا رويدا ممسكا بجلباب الملك، وترتفع درجة حرارة الاندماج والعصبية، إذ ترتعش يداه كلما هبط إلى أسفل ليجثو على ركبتيه، متوسلا وباكيا يطلب العفو والعتق من الموت.
المفترض أن الملك في هذا المشهد هو سيد الموقف الذي يقف في عظمة وشمم وقوة، غير أن ما حدث كان غير ذلك تمامًا.. بدأ الملك بالضغط على شفتيه برفق، وبعد برهة بدا وكأنه يجاهد آلام الرغبة الملِحَّة لقضاء الحاجة، ثم ازداد وضوح حركة ضغط أسنانه على شفته السفلى، واكتسى وجهه باللون الأحمر، ثم تحول فجأة إلى اللون الأزرق، وهو يضغط بأسنانه بكل قوة على شفته، في حالة لا تتناسب البَتَّة مع ثبات ووقار وشموخ الملك.. فما السر؟!
الحكاية أن جورج أبيض كلما هبط إلى أسفل ممسكا بجلباب الملك، ارتفعت وتيرة التوسل وقوة الاندماج في الدور، ودون أن يدري أطْبَق بكفيه على "مصلحة" الملك، وكلما ارتفعت حرارة الأداء اشتد إحكام قبضتيه.
حاول الملك تنبيه جورج أبيض بتأوُّه خفيف حتى لا يفسد المشهد، إلا أن أبيض من عمق المعايشة، لم يلتفت ولم يدرك أنه بدلا من أن يتعلَّق بجلباب الملك، تعلَّقَ بالمصلحة.. وعندما شعر الملك أنه على أبواب غيبوبة مؤكدة، بدأ ينبهه قائلا كفاية يا أستاذ، كفاية أرجووووك.. وجورج ولا هو هنا.. فإذا بالملك وبصوت مسموع يقول حرام عليك هموت، سيب الـ.... "المصلحة" يا جورج بيه.