الفقر.. وسياسات الدولة الرحيمة!
عندما يُصبح الفقر هو "مدينة" الفقراء.. يتنفسون هواءها الملوث، ويمشون في شوارعها المفككة وحواريها المتعرجة ـويشربون ماءها المخلوط بمياه الصرف، ويأكلون طعامها المصنوع من نباتات متسرطنة.. يتعلمون في مدارس بلا منهج ولا معلم.. ويتعالجون في مصحات بلا طبيب.. مدينة يحكمها فقط قانون "القرش" الذي لا يُمنح لسد احتياج لدى فقير وإنما لقضاء مصلحة تصب في أصحاب الكرش الكبير.. كروش تملؤها قروش.. قروش انتُزعَت من "قوت" الفقراء بلا حول منهم، وبفعل سياسات قد لا يراها الساسة "مُجحِفة" بقدر ما يرونها سياسات "رحيمة"!
مدينة كان يدفع سكانها أعمارهم ثمنًا للحرية على مدى التاريخ.. ومن أجل "الحرية" كانوا يتحملون سنوات من الضَيِّم والقهر.. والآن بات ثمن حريتهم هو "القرش" الذي من أجله يهرولون إلى صناديق سميت بـصناديق "الاقتراع الحر".. هذا هو ما كتب على أبوابها.. ولكن بداخلها عادة ما تدور أبشع معركة بين "ديكاتوترية" القرش و"مشروعية" القيم.. أو قل بين حاملي الكروش أو القروش وحاملي القيم.. معركة عادة ما تُحسّم لصالح أصحاب الكرش الأكبر؛ ليظلوا دائما خارج مدينة الفقراء.. لا يدخلونها إلا لشراء "حصانتهم" في مقابل حرية أصحابها!
ومهما تعددت حكوماتنا ومهما تَغَيَرَّت فإن الخروج من هذه المدينة كان هو الحلم والهدف، ليس للمواطنين وحدهم بل للحكومات نفسها.. ولكن الذي يحدث دائما أن كل حكومة أتت، ترحل وقد فتحت بابًا جديدا لدخول هذه المدينة.. حتى صارت أسوارها تتسع لتبتلع السواد الأعظم من سكان الوطن الأكبر.. والمتهم في كل الحالات هي السياسات التي تتبعها تلك الحكومات.. التي إذا ما تمت دراستها اكتشف الباحثون والمهتمون خاصة إذا ما قارنوها بسياسات دول أخرى متقدمة، أنها سياسات أقل ما توصف به أنها سياسات "رحيمة"!
سياسات تعالج الفقر بحَشو البطون دون الاهتمام بتنوير العقول.. سياسات جعلت الإقراض منهاجا أساسيا لمكافحة الفقر، وأصدرت في ذات الوقت فتاوى تُحرم الإقراض وتضعه في مرتبة "الربا"، وفى المقابل تعامل الفقراء بالقروض ليس في مجال المشروعات الصغيرة كما تدعي الدولة.. وإنما في علاج مريض أوشك على الهلاك.. أو في تزويج فتاة تريد التعفف.. أو في ترميم بيت أوشك على الانهيار.. وفي حين تجعل الدولة "القرض" أساسا لإسكات الفقراء وإخماد ثورتهم.. اعتبره الفقراء "ذنبًا" يحلمون بالتخلص منه!!.. ورغم علم الدولة بأن القروض تُنفق في غير مصارفها القانونية.. إلا أنها تغض الطرف عنه عمدًا، تحت شعار "الدولة الرحيمة"!
سياسات رحيمة جعلت الدولة تواجه الفقر بتوزيع وجبات غذائية في مؤسساتها لمحاربة احتكار التجار.. بصورة جعلتنا نتساءل: هل عجزت الدولة عن منع الاحتكار وضبط التجار ومطاردة الخارجين على التسعيرة، أم جعلت منهم أندادا لقوة الدولة في تثبيت واستقرار أسعار السلع؟!.. والإجابة تقودنا إلى التسليم بأنها سياسات ليست رحيمة فقط على الفقراء.. فربما تكون أكثر رحمة بالمجرمين والمحتكرين لقوت الشعب!
سياسات بدلا من أن تقضي على عمالة الأطفال وأطفال الشوارع وتعيدهم مجددا إلى مدارسهم.. أعدت لهم مراكز متخصصة تستقبل أطفال الشوارع نهارًا؛ لتطعمهم أو تكسوهم ثم تعيدهم مجددًا إلى الشارع بدعوى عدم وجود أمكنة لمبيت هؤلاء المشردين.. بل خصصت لهم سيارات تجوب الشوارع لتقديم خدمات سريعة للمشردين.. وعموما فإن تكالب الأطفال وتدافع الأسر نحو الاستفادة من خدمات أطفال الشوارع.. يجعلنا نصف تلك السياسات بأنها سياسات "مُشَجِعَة لاستمرار الظاهرة وليست سياسات مناهضة".. وإذا ما واجهنا المسئولين عن فشل تلك السياسات أجابوا: إن لم نتمكن من منع الظاهرة فعلى الأقل نمنع الأطفال من الموت.. سياسات رحيمة بـ"المشردين" على المدى القريب.. شديدة القسوة على "الوطن" في مستقبله البعيد!
سياسات عجزت عن سَّد الفجوة بين التعليم والتشغيل؛ فأصبحت تُخَرِج سنويًا قرابة 2 مليون عاطل من حاملي المؤهلات العليا والمتوسطة.. في مدينة وصلت فيها معدلات الفقر 26.4%، أي نحو 23.4 مليون مواطن تحت خط الفقر.. كما فشلت في تشغيل قرابة 4603 مصانع أُغلقوا منذ يناير 2011م.. سياسات وجدت في إطعام الفقراء من خلال وجبات سريعة أسهل بكثير من تجويد تعليم أو تشغيل مصنع أو ضبط معدلات النمو السكاني أو تدريب الشباب.. ورغم قناعة الدولة بأن سياسات "الكراتين" أو الوجبات السريعة لا تنهض بأمة ولن تحقق تنمية بقدر ما تكرس ثقافة التواكل والإذلال.. إلا أنها لا تزال مُصِرَة على الاستمرار في سياساتها الرحيمة!