رئيس التحرير
عصام كامل

«صنائع المعروف» لمن يستحق فقط


جاءني أحد الزملاء بصحبته ضيوف من فلسطين، فقررت عدم الحديث في السياسة منعا للخلاف معهم، لكن للمصادفة كان معبر رفح مفتوحا لنقل الفلسطينيين، فإذا بأحدهم يستنكر إغلاق مصر المعبر، لأن علاقة الأخوة والدم جديرة بأن تجعلها تفتح المعبر على الدوام ولا تخنق أهل غزة، تركته يتحدث ثم قلت: إن تجعلوا "غزة" منصة إرهاب لضرب وحرق مصر طمعا في دولارات قطر وإيران وجماعة الإخوان الإرهابية، فغلق المعبر نهائيا هو أقل القليل ويفترض قطع العلاقات وتدمير من يساندون الإرهاب.


استغرب الضيف منطقي، فتابعت كلامي: مصر صنعت المعروف سنوات طويلة وقدمت آلاف الشهداء، وخاضت الحروب من أجل قضيتكم، فلو كنتم حفظتم الجميل ما أغلق المعبر وما تدهورت العلاقات، بل لكانت مصر أجزلت لكم العطاء، مثل صاحب قصة "صنائع المعروف".

رد: لا أعرف القصة!، فقلت إذن أسمعها وهي لتاجر بدوي حرص على توثيقها قائلا: خرجت في فصل الربيع، وإذا بي أرى الإبل سمانًا، كلما اقترب ابن الناقة من أمه دَرّت وانفجر الحليب منها من كثرة البركة والخير، فنظرت إلى ناقة بينهم وابنها خلفها وتذكرت جاري الفقير وبناته الصغيرات، فقررت التصدق بالناقة وولدها له.

أخذت الناقة وابنها إلى جاري.. فرأيت الفرح في وجهه لا يدري ماذا يقول، وأصبح يشرب من لبنها ويحتطب على ظهرها وينتظر وليدها يكبر ليبيعه، وجاءه منها خيرٌ كثير.

انتهى الربيع وجاء الصيف، ثم الخريف بجفافه وقحطه، فتشققت الأرض، وبدأ البدو يرتحلون بحثا عن الماء والكلأ.. شددنا الرحال نبحث عن الماء في الدحول (حفر في الأرض توصل إلى محابس مائية لها فتحات فوق الأرض)، دخلت إلى دحل منها لإحضار الماء حتى نشرب وانتظرني أولادي الثلاثة خارج الدحل، لكنني تهت ولم أستطع الوصول إلى سطح الأرض.

انتظر الأبناء يومًا ويومين وثلاثة، حتى يئسوا وقالوا: لعل ثعبانًا لدغ أبانا ومات، أو تاه تحت الأرض وهلك.. شد الأبناء رحال العودة وقسموا الميراث فقال أحدهم: أتذكرون ناقة أبي التي أعطاها لجارنا، إنه لا يستحقها، فلنأخذ بعيرًا ضعيفا نعطيه الجار ونسحب منه الناقة. وذهبوا إلى الجار المسكين وقالوا: أحضر الناقة.. قال: إن أباكم أهداني إياها.

قالوا: أعد لنا الناقة، وخذ هذا البعير وإلا سنسحبها الآن عنوة، ولن نعطيك مكانها شيئًا.

رد الجار: أشكوكم إلى أبيكم.. قالوا: إنه مات!!

استغرب الجار: كيف مات ولم أدرِ؟

قالوا: دخل دِحلًا في الصحراء ولم يخرج، فسارع الجار قائلا: اذهبوا بي إلى الدحل ثم خذوا الناقة ولا أريد البعير، فلما ذهبوا به إلى المكان الذي دخل فيه الأب، أحضر حبلًا وأشعل شعلةً ثم ربط طرف الحبل خارج الدحل والطرف الآخر على خصره، ونزل يزحف حتى اشتم رائحة رطوبة، وإذا به يسمع أنينًا وأخذ يتلمس الأرض في الظلام، حتى وقعت يده على طين ثم على الرجل فوضع يده فإذا هو حي يتنفس بعد أسبوع من الضياع، أخذ يجره وربط عينيه، ثم أخرجه خارج الدحل وأعطاه التمر وسقاه وحمله على ظهره وجاء به إلى داره، ودبت الحياة في الرجل من جديد، وأولاده لا يعلمون، قال الجار: أخبرني كيف بقيت أسبوعًا تحت الأرض ولم تمت!!

قال: لما دخلت الدُحل وتشعبت بي الطرق أدركت أنني ضعت، فقلت آوي إلى الماء الذي وصلت إليه وأخذت أشرب منه، ولكن الجوع لا يرحم، فالماء لا يكفي.. وبعد ثلاثة أيام أخذ الجوع مني كل مأخذ، وبينما أنا مستلقٍ وسلمت أمري إلى الله إذا بي أشعر بحليب يتدفق على لساني فاعتدلت فإذا بإناء في الظلام لا أراه يقترب من فمي فأرتوي ثم يذهب، وأخذ يأتيني في الظلام كل يوم ثلاث مرات، ولكن منذ يومين انقطع الحليب.. ولا أدري ما سبب انقطاعه؟

أجاب الجار: لو تعلم سبب انقطاعه لتعجبت! ظن أولادك أنك مت فجاءوا إلى وأخذوا الناقة التي كان الله يسقيك منها، فالمسلم في ظل صدقته ومعروفه، وكما قال رسولنا الكريم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء".

هنا جمع الرجل أولاده، وقال لهم: "لقد قسمت مالي نصفه لي، ونصفه لجاري الذي حفظ المعروف ونجاني من الموت".
لم يعلق الضيف على القصة، فقلت له: من يحفظ صنائع المعروف يجزل له العطاء، أما من ينكر ويبادر بالشر فلا يستحق إلا الشر، وكما يقال "الكحل في العين الرمدة خسارة".

الجريدة الرسمية