أمنيات الغريب
أعشق المطر بكل ما فيه من وصدق وحياة، فالمطر هدية الله للصابرين وغيث السماء للمبتلين، حين كنت طفلة بمصر وأخرج من المدرسة فأجد الشمس تضحك والمطر يغازلها، كنت أقبل حبات المطر وأعانق شعاع الشمس، كم من مشاهد في حياتنا لم تصورها الكاميرات ولكنها محفورة في الذاكرة.
انتهيت من عملي في ليلة السبت وسمعت زميلاتي يتحدثن عن أمطار غزيزة بالخارج، فمنيت نفسي برقصات تحت المطر، ولكن ما أن خرجت حتى فهمت أنها ليست أمطارا معتادة، فلم أر مثيلها في الجنوب الفرنسي الحالم من قبل، رعدها مخيف تصاحبه رياح قوية تقتلعني من مكاني، ركبت مع إحدى زميلاتي لتقلني إلى بيتي وما أن اقتربنا من أول دوران حتى هاجمتنا سيول كالنافورات، لم نعرف مصدرها، فتراجعنا بصعوبة وكدنا نفقد السيطرة على السيارة، وبعد أن سلكنا طريقا آخر أذهلتني كمية المياه المنحدرة من الجبال في اتجاهها للبحر، وتخيلت المدن المسطحة كمدينة نيس وكان، لو استقرت كل هذه المياه فيهما سينتج عنها حوادث وضحايا، وبدأنا نصعد الجبل بتأنٍ، والمياه تقفز حولنا كحيوانات مفترسة في غابة تنتظر انزلاقنا لتنقض علينا، ووصلت إلى بيتي أخيرا بسلام في ليلة أبعد ما تكون عن الرومانسية.
على صفحات التواصل الاجتماعي، انتشرت صور مقلقة لغرق مدينة كان، حزنت عليها فهي عندي إسكندرية فرنسا، اتصلت أكثر من مرة بمروان، صديق مصري يعيش ويعمل بها، لكن هاتفه لم يجبني، ما زاد قلقي.
أخرجت دفاتر صوري القديمة لأتناسى القلق، ذكرياتي فيها كقصر عتيق به حجرات مضيئة تناديني، وحجرات أخرى مغلقة غير مسموح لي بطرق أبوابها، ففيها ما سيؤلمني ولا أريد أن أتذكره، وفيها حجرات تشبه حياة البشر تخفي أسرارها وتتخايل أمام الناس بجمالها، لتشهد أن ابتسامات الصور قشور سعادة.
وأخيرا يتصل مروان ليطمئنني أنه بخير، بعد معاناة أربع ساعات هو وزوجته وأطفاله محبوسين في سيارتهم بين مدينة نيس وكان، وليعلمني أن زميله المصري مات هذا الصباح بسكتة قلبية في منزله، للوهلة الأولى لم أستوعب أنه يبكي، ولم أتفوه بكلمة، ففي حضرة دموعه انتحر الكلام، فبكاء الرجال كانحناء الجبال، كان صوته مضطربا كبحر ضلت أمواجه شاطئها، فراحت تلاطم بعضها، وكلما لفظت إحداها أنفاسها الأخيرة هاجت الأخرى ذعرا من ملاقاة نفس المصير.. "كان يردد بهذيان معقول بعد سنين الشغل والشقا في الغربة يموت كدة ببساطة وماحدش يحس بيه".
الغربة ليست مجرد كلمات تنوح على نغمات ألحان الأغاني، بل هي حياة من الصباح للمساء، لا يفهمها إلا من اغترب، وليل يبدع في إيلامك حين يهبط أمام شرفتك كل ليلة، ليذكرك بأنك غريب، أغلى أمنياتك أن تعود إلى بلادك على قدميك، قبل أن تُحمل إليها في صندوق.
