مع الأزهر «ميكس» كل حاجة بالعكس
اختار الأزهر أن يهتم بأمور سياسية لم يكن يهتم بها، وعندما قرر أن يهتم بها جعلها "كهنوتا"، ولم يهتم الأزهر بأمور كان يجب أن يهتم بها، وعندما وجد نفسه مضطرًا للاهتمام بها "استخفها".
فمنذ بضعة أيام ظهر وكيل الأزهر في شريط فيديو يحث المواطنين فيه على المشاركة في الانتخابات البرلمانية، يعقبه تصريح من شيخ الأزهر يقول "إن من يقاطع الانتخابات كالعاق لوالديه"؛ لأن مصر كالأم، تصريحا وكيل الأزهر وشيخه يدفعني لمراجعة الدور الحيوي للأزهر، وما يجب أن يقوم به وما ويتغاضى عنه.
لعله من الأمور الإيجابية أن يهتم الأزهر وشيخه بالعملية السياسية، وكنت أتمنى أن يهتم شيخ الأزهر-بنفسه- بأن يكون "لمصر" قانون انتخابات يعّظم الحياة الحزبية، وأن يعمل فضيلته كهمزة وصل بين رؤساء الأحزاب المقاطعة للانتخابات وبين الرئاسة والحكومة على أمل أن يوافق الرئيس على تغيير قانون الانتخابات البرلمانية الذي يعّظم الفردية والمال السياسي، وأن يطلب بيانا رسميًا من وزارة الداخلية بعدد الشباب المحبوس احتياطيًا، وأن يسعى للإفراج عمن لا يوجد بحقه اتهام.
الأزهر وشيخه لن يطلبا ذلك، لأنهما يتحدثان في السياسة عندما يكون "الغناء" السياسي حلال، وربما يٌصدر الأزهر بيانًا للرد على من يطالبه بأن يتدخل في الحياة السياسية بالقول إن الأزهر لا "يتحدث" في السياسة؛ لأن الأزهر لا يعمل بالسياسة، ولعل شيخ الأزهر لا يعرف أن العازفين عن المشاركة في الانتخابات يحمدون الله على أنهم لم يغادروا "كنبة البيت" عندما سمعوا شيخ الأزهر يحث على المشاركة في الانتخابات البرلمانية، لأنهم يعرفون أنه كان على شيخ الأزهر أن يهتم بقضايا سياسية أكثر أهمية قبل أن يعطي لنفسه الحق في أن يمنح المشارك في الانتخابات "صك الغفران" السياسي، وأن يتهم المقاطع للانتخابات بالعقوق.
الأزهر لا يهتم بما يجب أن يقوم به، فالشغل الشاغل للأزهر- كأكبر مؤسسة إسلامية في الشرق الأوسط – هو أن يحرص على تنقية التراث الإسلامي من الخطاب الذي يحث على التطرف، والتكفير، وقتال الآخر، فتجديد الخطاب الديني مهمة لن يتصدى لها الأزهر لأنها تتطلب مراجعة لتراث اتخذت الجماعات المتطرفة أسسه كمنطلقات عقائدية للتكفير والقتل، والتطرف، فشيخ الأزهر "كرر"، و"شددّ"، و"أكدّ" في مناسبات مختلفة ضرورة تجديد الخطاب الديني، ولكننا لا نعرف الجهود الذي اتخذها الأزهر –والتي يجب أن تكون علانية– نحو تجديد هذا الخطاب، ولن يصرح الأزهر بالخطاب الذي يحتاج للتجديد ولن يوضح كيفية تجديده، وأغلب الظن أن موضوع "تجديد الخطاب الديني" سينتهي بمؤتمر كبير تبدأ جلسته الافتتاحية بتأكيد ضرورة تجديد الخطاب الديني، وتنتهي جلسته الختامية بحتمية تجديد الخطاب الديني، وسينتهي المؤتمر "بكلام...كلام..كلام"، ولن نأخذ من المؤتمر–أو تصريحات شيخ الأزهر-سوى الكلام.
تجديد الخطاب الديني ارتبط بكثرة العمليات الإرهابية في سيناء وفي محافظات مصر، وحديثا في باريس.. الغريب والعجيب أن وكيل الأزهر ظهر حديثاّ -في خطبة الجمعة- لينفي عن "العرب تهمة تصدير الإرهاب"، رغم أن من قام بالعمليات الإرهابية في باريس مسلمون، ومعظمهم من أصول عربية، ويعتقدون أنهم يدافعون عن الإسلام، ويقولون إنهم يعبرون عن الإسلام الصحيح.
وكيل الأزهر اختار نغمة الإنكار قائلا إن "العرب هم من يتلقون الإرهاب".. نغمة الإنكار تتماشى مع العقود التي تعيشها مصر مع الأزهر... مصر، الأم، كما وصفها شيخ الأزهر، تستحق أزهرًا يكون لها منارة "لتوضيح ونبذ" كل ما يحث على العنف والتطرف.
الأزهر الذي غفل لعقود طويلة عن تنقية التراث الإسلامي وتنازل عن دوره الحيوي في ضمان حياة سياسية وديمقراطية للمواطن، فتح الباب على مصرعيه لحركات إسلامية عديدة، ومن بينها تنظيم الدولة الإسلامية لتبنى تراث يسمح لهم باستخدام العنف المسلح والإرهاب على اعتبار أنه طريق الخلاص من القهر السياسي، والطريق لتطبيق ما وجدوه في التراث الإسلامي.. غاب الأزهر فظهرت الجماعات المتطرفة، أو كما قال الباحث السياسي، الدكتور عمار على حسن: إن هناك جماعات سعت إلى أن تملأ الفراغ الذي تركه الأزهر.
وفي ظل عقد جديد من عقود الغفلة، لن يكون غريبًا أن يجهل الأزهر وشيخه أن الديمقراطية تعطي المواطن الحق في أن يقاطع العملية الانتخابية برمتها إذا رأى أن العملية الانتخابية لا ترقى وطموحاته السياسية بعد ثورتين، ولن يكون عجيبًا أن يقول وكيل الأزهر إن العرب يتلقون الإرهاب ولا يصّدرونه، وحتى يزول عنك الاندهاش، عليك عزيزي القارئ أن تسير على نغمة الإنكار التي يتبناها وكيل الأزهر فتتخيل أن "باريس" هي عاصمة "العراق"، وأن مسلمي داعش لا يدينون بالإسلام، بالرغم من أن الأزهر -نفسه- رفض تكفيرهم باعتبارهم مسلمين، وقتها لن تكون محبطًا عندما لا ترى في "حدوتة" تجديد الخطاب الديني غير عبارة "ضرورة تجديد الخطاب الديني"، لأنك لن تعرف شيئًا عن الخطاب الذي يقول الأزهر أنه سيجدده، ولأن الأزهر ليس على استعداد لمواجهة "الخطاب الديني" لأن ذلك سيطالبه بالتقاطع مع محاور إقليمية يسير الأزهر في ركابها.
الأزهر يخلط الأوراق ويقلبها حاليا، وأعتقد أن ما يشغل الأزهر ويقلقه هو أن اتباع القواعد المرعيّة وتعليمات رئيس الجمهورية، لا تأتي النتائج المرجوة ولا تحققها، فنسبة المشاركين في الانتخابات لم تزد – ولن تزد – بعد اتهام المقاطعين بالعقوق، وانخراط بعض الشباب في جماعات متطرفة لن يتوقف طالما وجد هؤلاء الشباب من يزيّن لهم العمليات الإرهابية معتمدا على خطاب – أقله يعتمد- على تراث يطالب بقتال الناس حتى يسلموا.
لا تنتظروا من الأزهر شيئًا فهو مشغول حاليا بعمليات "ميكس" سياسي محلي، وعمليات "عكس" إسلامي دولي فبدلا من أن يعلن الأزهر أن الخطاب الديني الذي تتبناه "داعش" هو المسئول عن الإرهاب وأن يتصدى لهذا الخطاب ويفنده، ويعلن تخليه عنه ويصحح كتب التراث، اختار أن يهاجم الغرب ليدافع عن الإسلام، لأن اتهام الغرب أسهل.
ورغم كل عمليات "الميكس والعكس" التي يقوم بها وكيل الأزهر وشيخه، لا تزال مصر، والغالبية من المصريين الذين قاطعوا الانتخابات البرلمانية، بل الإنسانية جمعاء يبحثون عن الأزهر.