يا بخت اللى يموت اليومين دول!
كُنت قد اتخذت قرارًا لم يُعنّي عليه أحد بألا أمنح صوتي الانتخابي لأي مُرشَّح بيحضر مآتم العزاء خلال فترة الدعاية الانتخابية لمُرشحى مجلس النواب، خاصةً أن الأستاذ أو الحاج أو الدكتور المُرشَّح يظهر راسمًا على وجهه الأسى والحُزن، ومُقدمًا أسمى آيات الندم والشجن، والدمعة يا عينى تكاد تفرّ من عينيه، وهو يترحَّم على المرحوم الغالى، ويطلُب لأهله الصبر والسلوان، ويثنى بحماس على أفضاله ومآثره، ويُعدد مواقف جمعته بـ"المرحوم"، وكانت أفضل ما فعل في حياته؛ حيث تعلَّم منه دروسًا وعبرًا وقيَمًا، ونهل من خبراته العديدة ما نهل، مُثنيًا على أهله وأبنائه وذويه، إذ لن يختلف الفرع عن الأصل أبدًا، وهو كلام مُقنع لآل المتوفى طبعًا، رغم أن الميِّت في الأصل واحدة ست وليس رجُلًا!
لكنى للأسف فشلت في وضع ذلك القرار قيد التنفيذ، لا سيما أن كُل المُرشحين في دايرتنا الكريمة قد تسابقوا لحضور مياتم العزاء، ولم يعُد هُناك بُدًا من اختيار أحدهم، لا سيما أننى ضد فكرة المُقاطعة، أو الفكرة الهايفة بتاعة إنى أروح أقَطَّع الورقة، أو أرسم فيها قلبا وسهما وأكتب بحبِّك يا (حنان)، والكلام الفارغ ده، خصوصًا أن (حنان) محضرتش المآتم دليل على أنها لم تكُن مُرشَّحة في انتخابات المجلس الموقَّر بالطبع!
ولما فشلت، قُلت لنفسى خلاص نختار أقل واحد فيهم بيجامل آل المتوفى (أو المتوفية)، يعنى أقل واحد بيقعُد في المأتم، أو نختار اللى مش بيبان عليه الزعل أوى كأن اللى مات ده أبوه أو أخوه، رغم إنه أصلًا ميعرفش اسمه، وفكَّرت في هذا الأمر طويلًا حتى وجدت نفسى في مواجهة الصندوق، وفى يدي الورقة، ولازم أختار مُرشَّحا من قائمة طويلة عريضة، فيها كُل أنواع المُرشحين اللى عدّوا على كُل مآتم البلد وأفراحه وأعياد ميلاده وطهوره، ففى المأتم يلطم ويضرب خدوده بالأقلام، وفى الفرح يزغرد ويضرب عيارين في الهوا، أو يضرب "حشيش" مع أصحاب الليلة، وبدأت أفهم إن المُرشَّح اللى مُمكن يكون قضى أقل وقت في المأتم لا يُمكن أن يمتلك الأولوية عندى لانتخابه عضوًا في البرلمان كشرط أساسى؛ إذ قد يكون قُصر فترة بقائه في السرادق نابعًا من ارتباطه بمُجاملة أخرى في مأتم آخر، أو في طهور أو في سبوع أو في دُخلة بلدى!
والحقيقة فأنا أحسد آل المتوفى، بل أحسد المتوفى نفسه اللى يموت في أيام الانتخابات المُفتَرَجة هذه؛ إذ يتسابق كُل مُرشَّح بهيبته وهيلمانه وعُصبة الجِتَت اللى نحوه اللى بتوسَّع له السكَّة دى، وبتغنى له ادعوا لعم الحاج بطولة العُمر الله يخليه، الله يخليه ويبارك فيه، يتسابق الجميع لحضور المياتم، ما يُضفى عليها جوًا من القيمة والفخار، لا سيما أن البدلة بالكرافتة، أو الجلابية الفخيمة بالصديرى والعصايا، إذا ما اقترنوا بشوية الأنصار والعربيتين اللاند روفر، ويا سلام لو نضارة شمس كدة، بيعملوا أحلى شُغل في الميتم، وبيخلوا الجَو جواه يرُد الروح، يعنى مُمكن تلاقى الميت صحى، وقاعد ياخُد عزاه من سيادة المُرشَّح بذات نفسه!
ومما يزيد الفخار للميت وآله أن وجود كُل مُرشحى الدايرة في المأتم يُعنى ببساطة شديدة أن عضو مجلس النواب أبو حصانة ونفوذ قد حضر جنازة أبوك، أو خارجة أمك، أو أربعين عمِّتك، أو دَفنة حماتك (في هذه الحالة الفرحة مُضاعفة)، تقول لى هو لسَّة مبقاش عضو، أقول لَك مبروك، حضرتك ضمنت خلاص؛ إذ أن بالبديهى وجود كُل المُرشحين في السرادق أو المضيفة أو الكُرسيين المرصوصين في الحارة، يُعنى إن واحدًا منهم أكيد هينجح، أنتوا متعرفوش إن الدايرة لازم ينجح فيها مُرشَّح واللا إيه؟ لا صحيح؟ وسيكون عليك أن تفتخر أمام أبنائك وأحفادك وجيرانك ـ اللى اتحرموا من إن يكون عندهم ميّت في الظروف الانتخابية العنب دى ـ بإن عضو البرلمان اللى واقف يجلجل تحت القُبة في التليفزيون هذا، أو الباشا اللى نايم على كُرسى المُجلس الآن، أو طالع يتكلم عن أزمة الترتر في برنامج فضائى شهير، قد حضر لمواساة حضرتك في مصابك الأليم ذات يوم، ولا يضمن أي مخلوق من أبناء الدائرة الكرام تكرار هذا الفضل مرَّة أخرى عما قريب من جانب سيادة المُرشَّح الذي صار نائبًا، إذ أن الانتخابات لسَّة باقى عليها خمس سنين، ويا عالِم مين يموت قبل مين، أصلك تبقى عبيط أوى بصراحة لو صدَّقت إنه مُمكن ييجى يواسيك في أي مصيبة وهو عضو في المجلس، أومال مين اللى ينام هناك يا جدع؟!
يعنى بالبلدى وباختصار، لو لم تستغل فُرصة فترة الدعاية الانتخابية وتموت، فتحصُل على جنازة مهيبة بحضور السادة النواب المُحتملين، فلن تحصُل على هذه الفُرصة أبدًا، يعنى باختصار حضرتك تموت دلوقتى أكرم لك، أو لو عندَك حَد عزيز عليك، وعايز تكرّمه، فلازم تقنعه بأنه يلحق يموت قبل انتهاء جولة الإعادة المُقررة الأسبوع المُقبل؛ ليستغل هذا الموقف ويشوف في مماته اللى مكانش يحلم يشوفه في حياته، وسبحان مَن له الدوام، والله يا دايم هو الدايم، ولا دايم غير الله، وما نجيلكوش في مجلس!