رئيس التحرير
عصام كامل

الطائرة المنكوبة واللهو الخفي


مخطئ من يتصور أن حركات التغيير التي اجتاحت منطقة ما تسمى بـ"الربيع العربي"، قد انطلقت مع نشوب أول شرارة في جسد البو عزيزي "في تونس".. فكم من شباب قد مارس الانتحار؛ بسبب الأنظمة الفاسدة، التي راهنت لاستمرار هيمنتها في الحكم على تجويع الشعوب وإخراج الشباب بعيدًا عن المنظومة السياسية التي تحكمه، أو من خلال إدخاله في حلقة مُفرغة من الأزمات، لا سبيل للخروج منها سوى بالانتحار.. ولم تتوقع أبدا تلك الأنظمة "المُغيّبة" أن الثورة عليها ربما تكون هي الخيار الأول للشباب؛ من أجل ممارسة حقهم المشروع في الحياة.


ورغم أن فساد هذه الأنظمة كان ولا يزال العنوان الأكبر للثورة في بلدان الربيع المزعوم، إلا أن التخطيط لإفساد تلك البلدان قد بدأ قبل البو عزيزي بسنوات طويلة.. وظهرت إرهاصاته مع تدشين أول أكاديمية للتغيير بلندن عام 2006م، التي اتسع نشاطها باتخاذ وكلاء لها في التغيير بكل من "قطر" و"النمسا".

ومن ثم تصبح قطر هي الوكيل الرسمي للتغيير الآمن في المنطقة، تحت يافطة خداعة مكتوب عليها "بناء قدرات المجتمعات العربية على تحقيق أحلامها"، وحقيقة الأمر كان هدفها هو إنتاج مواطن عربي مُفَرغ من أي مضامين دينية أو وطنية أو تنموية.. من خلال إشغاله بشعارات براقة كـ"المدنية والديمقراطية والتحول الآمن والتغيير السلمي وحرية التعبير"، ومن ثم الانتقال بـ"العقول التقليدية" للشباب، التي تكرس فكرة الانتماء للوطن الواحد، وتُعلي الثوابت الدينية، وتقيم مصالحة ناجزة بين المبادئ الدينية والثوابت الوطنية، إلى "عقول جديدة" لا تعرف معنى للانتماء ولا تقدر الحدود الوطنية وتعمق الخلاف بين ما هو ديني وما هو وطني.

ومن ثم فإن أكاديميات التغيير هذه، التي تتزعمها قطر في المنطقة، بدعم بريطاني مشبوه، تسعى إلى الانتقال الناعم بالصراع من التصادم العسكري إلى الحرب الاقتصادية والانتهاء بتكريس "حرب العقول".. التي خُطط لها من ثمانينيات القرن السابق من خلال إستراتيجيات "تهويد العقل العربي"، التي كان لها انعكاساتها الكبيرة في تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل.. الأمر الذي يجعلك لا تستغرب عندما تقرأ عن تبرع ثري قطري لبناء مستوصف طبي لفقراء إسرائيل!!.. أو أن تسمع شبابًا مصريين يدافعون عن وجود إسرائيل، بدعوى أنهم خلق الله وأن الأرض أرض الله، وأن الحدود الجغرافية من صنع البشر ولا يجوز لدولة أن تحتكر الأرض!

إن هذا التغيير المستهدف في تصوري، لم يدافع فقط عن الوجود الصهيوني الذي استهدفته بريطانيا منذ التسعينيات تقريبا، عندما أسست مراكز متخصصة في تقديم "الخدمات السرية للمخابرات الإسرائيلية"، إيجاد وكلاء لها في كل من العراق وسوريا بدعم قطري تحت ما يسمى بـ"أكاديميات التغيير"، وإنما استهدف هذا التغيير في تصوري "تفحيم" العقل العربي، الأمر الذي يجعلنا لا نستغرب التدخل القطري السافر في الشأن المصري، ولا نستغرب بالتبعية أن نرى شبابا يُحرقُون بلادهم، أو نرى فصيلا يطالب بغزوها، أو نرى فِرَقا تطالب بالحصار الاقتصادي.. ولا غرابة أن ترى "داعش" تُحلق في الأفق!!!

وليس غريبا أيضا أن ترى بريطانيا تصطاد في المياه العكرة؛ لشن حرب اقتصادية ضروس على النظام المصري من خلال ضرب أهم موارده الاقتصادية وهو النشاط السياحي.. مستغلة في ذلك حادث الطائرة الروسية المنكوبة.. ومستهدفة بذلك توجيه رسالتين مهمتين، الأولى موجهة إلى روسيا الاتحادية؛ لوقف تحركاتها وهجماتها العسكرية ضد الإرهابيين الدواعش في سوريا، وذلك من خلال حث الشعب الروسي على ممارسة مزيد من الضغوط على بوتين وإظهاره في صورة الحاكم الذي ورط جيشه في حرب لا يعرف نتائجها ولا طائل من ورائها سوى الموت!!

والرسالة الثانية موجهة إلى دولة السيسي، وإظهاره في صورة الفاشل في تحقيق الأمن والوفاء بوعوده مع الشعب، وإظهاره في صورة الزعيم الذي وضع شعبه على حافة مجاعة محتومة، وكذلك في صورة القائد الذي عجز عن توفير الأمن لشعب سار خلفه للتخلص من الفاشية الدينية!!

وربما يكون لبريطانيا هدف إستراتيجي بعيد، هو وضع سيناء تحت الحماية الدولية؛ من خلال استغلال حادث الطائرة الروسية وإنزال خبراء إنجليز إلى موقع الحادث؛ لإتاحة فرصة احتكاك الإنجليز بأهالي سيناء الذين تم حثهم للمطالبة بالحماية من الجيش المصري، بدعوى التهجير القسري وتصوير المشاهد بشكل متضخم، يجعل الإنجليز بمساندة أمريكية يطالبون بوضع سيناء ضمن المناطق غير الآمنة في العالم، التي تحتاج إلى حماية دولية.. وذلك كله لغرض أساسي، هو استقطاع أجزاء من سيناء لإقامة دولة فلسطين الكبرى، التي يحقق إقامتها الأمن والاستقرار لدولة إسرائيل!!

ومن هنا كان لزاما علينا أن نُذكِّر المتآمرين بأن مصر ليست العراق، وعلى كل الخونة والمتآمرين في الداخل وفي الخارج أن يعرفوا أن نظامنا الحاكم قوامه الجيش الذي تسانده الإرادة الحرة والوطنية الراسخة للشعب.. وأن سقوط نظام لا يعني سقوط مصر.. فلم تسقط مصر بسقوط الملكية، ولا بموت عبد الناصر، ولا باغتيال السادات.. ولم تسقط بخلع مبارك ولا عزل مرسي.. وسوف تظل مصر لقمة سائغة مستعصية في حلق كل خائن أو عميل!
الجريدة الرسمية