توفيق الحكيم يكتب: الساقية تدور
تحت عنوان «الساقية تدور» كتب الأديب توفيق الحكيم مقالا في أخبار اليوم عام 1949 يقول فيه:
لكل شىء نهاره وليله، يدوران حوله بلا انقطاع، لكن الإنسان في نظرته القصيرة وذاكرته الضعيفة لا يرى الحادث إلا في حلقاته المنفصلة وأجزائه المتقطعة ونتائجه المؤقتة، ومؤثراته المفاجئة فعينه لا تستطيع أن تشمله في جملته، لأن جملته ممتدة في الغد، وعين الإنسان لا ترى الغيب.
ولو استطاع الإنسان أن يشمل بنظرته الأمس واليوم والغد.. وأن يتتبع حادثا واحدا أو رجلا بالذات لرأى العجب.. فهذا الغنى الذي يملك الملايين سيرى أمواله قد بددها وريث، وهذا الوريث سيكون له أولاد فقراء.. ومن هؤلاء الفقراء يخرج واحد ينشئ ثروة.. وهكذا دواليك.
يأتى المال من العدم، ويذهب المال في العدم.. ويولد من السعد نحس، ومن النحس سعد، في حقيقة الأمر حظ زاهر ولا عاثر.. لأن الساقية الدوارة لا تبقى أحدا في موضعه، ولا شيئا في مكانه.. إن ما نسميه الحظ ليس إلا وقوف نظرنا المحدود على وضع من الأوضاع في وقت من الأوقات.
وإن فرحنا أو بكاءنا لهذا الحظ ليس سوى قلة صبرنا على البقية.. شأننا في ذلك شأم المشاهد لقصة تمثيلية.. إنه يضحك أو يبكى لكل ما يصيب البطل دون أن ينتظر ختام الرواية.. لعل أداة الشعور والإدراك فينا قد جعلت على هذا التركيب المناسب لحياتنا القصيرة فنحن نأخذ كل حادث يمر على أنه البداية والنهاية.. لا أنه الحلقة في سلسلة طويلة.
إن الإنسان الذي أعطى الحكمة، ليس في حقيقة الأمر إلا ذلك الذي أعطى العين التي ترى الأشياء في جملتها لا في جزء منها.. وفى تعاقبها لافى وقوفها.. تلك العين التي تبصر الساقية في دورانها.. وهذا ليس بالأمر الهين.. أنه للبشر من أصعب الأمور.. من أجل هذا كانت الحكمة في الأرض نادرة.. لأن الحكمة وحدها هي التي ترى الساقية وهى تدور.