الصرف الصحي بين حكومات ونواب فقدوا الوعي
يبدو أن كارثة الصرف الصحي التي أغرقت مدينة الإسكندرية - عروس المتوسط وعاصمة مصر الثانية - في مطلع الأسبوع الماضي، ليست قضية مدينة سياحية وتاريخية فحسب، بل هي مشكلة مدن وأحياء وقرى كاملة، ترقد تحت سيف التسيب وانعدم الضمير، وفساد بعض العقول، وضياع فضيلة المسئولية في دهاليز البيروقراطية، التي تتمدد في مفاصل الدولة العتيقة العصية على الإصلاح؛ بسبب غياب المراقبة والحساب.
منذ بضعة أيام وعقب مأساة الإسكندرية، قادتني قدماي للبحث عن صحيفة يومية نفدت لدى البائع الرئيسي في شارع البحر بالمحلة الكبرى، ولأني أعرف موقع بائع آخر للصحف يقع بجوار قسم أول المحلة الكبرى في أرقى أحياء مدينة المحلة، فقد حاولت المرور من الشارع المعتاد للحصول على الصحيفة، فوجدت مياه الأمطار تغطي الشارع حتى استحال السير على أرصفته، فذهبت إلى شارع آخر مجاور، فلم يكن أفضل من سابقه، ثم ذهبت إلى ثالث ورابع دون جدوى، فكلما دخلت من شارع عثرت على أشخاص آخرين يتعثرون في الوصول إلى منازلهم، ولم تفلح صفوف الطوب في إنقاذ هؤلاء من غرق الشوارع وقذارتها، ولم تمكنهم من العبور للجانب الآخر.
فمياه الأمطار وبالوعات الصرف الصحي مختفية تماما، تحت ركام المياه في كل الشوارع المحيطة، وبارتفاع لا يقل عن 30 أو 40 سم، التي تغطي الأرصفة، بحيث إنه لا يمكن العبور للجانب الآخر إلا باللف والدوران لمدة لا تقل عن نصف ساعة - بدون مبالغة - من أجل عبور شارع لا يستغرق الوصول إليه في الأوقات المعتادة أكثر من دقيقتين سيرا على الأقدام، وفي النهاية كان محل بائع الجرائد مغلقا من جميع الاتجاهات، فعدت من حيث أتيت، وتساءلت مع غيري الذين اكتست وجوههم بالغضب: هل هذه هي مدينة المحلة الكبرى أكبر مدن وسط الدلتا والقلعة الصناعية الشهيرة في الألفية الثانية؟.. وأين موظفو مجلس المدينة من ذلك الحدث الجلل؟.. ومن هو المسئول الفعلي عن ذلك في جميع مدن مصر وقراها؟.. الإجابة لم تغب عن ألسنة الفطن: ابحثوا عن السر في المحليات ومجالس المدن والقرى!
وبعدها بيومين، كنت في زيارة إلى صديق يسكن في قرية أبو صير الفرعونية، التي عرفت قديما باسم (بر أوزير)، وكانت عاصمة لملوك الأسرات الفرعونية 22، 26، 27.. هذه القرية الأثرية التابعة لمركز سمنود بمحافظة الغربية، تعيش في ظروف بالغة القسوة في شوارعها ومدارسها منذ وقت طويل؛ بسبب تهالك شبكة الصرف الصحي الأهلية، والتباطؤ في إنجاز شبكة جديدة منذ ما يقرب من سبع سنوات، ولم تفلح شكاوى سكانها في تغيير الواقع المؤسف أو تحسينه.
فالقرية التاريخية العائمة على مياه الصرف الصحي، كلما سقطت الأمطار ازدادت معاناة أهلها؛ للتخلص من تلك المياه التي تحمل الأمراض لأبنائهم، وتحاصرهم من الشوارع إلى داخل فصول المدارس وفي غرف المعيشة، فهل يمكن أن يكون هؤلاء الأطفال سوى مشاريع موت وانتحار وأمراض وتطرف؟، وكيف يشعر أبناء هذه القرية وغيرهم ممن يعانون نفس الظروف بالانتماء لوطنهم الذي لم يوفر لهم سبيلا كريما للحياة الصحية والتعليمية السليمة؟.. أليس عارا على دولة بحجم مصر في القرن الحادي والعشرين أن تتحدث عن التنمية وعن عاصمة جديدة وهي تترك أطفالها فريسة للمرض والجهل؟
ألم يكفِ إهمال آثار القرية وتجاهل سرقة تلك الآثار التاريخية ببلاهة، وتواطؤ الموظفين المقعدين عن أداء واجباتهم الوظيفية في مؤسسات الدولة؟، وأين ذهبت تلك المليارات التي أنفقها نظام مبارك على البنية التحتية في شبكات المياه والصرف الصحي؟.. وأين ذهبت المعونات الأجنبية بالدولار واليورو لهذا القطاع؟.. وأين حقوق هؤلاء المواطنين التي نصت عليها مختلف الدساتير في كوب ماء نظيف وحياة آدمية؟
لقد راعني ما رأيته في شوارع القرية التي يسكنها أكثر من 35 ألف نسمة، بينما مياه الشرب فيها ملوثة بالصرف وبقايا مياه الأمطار، فمياه الأمطار المختلطة بمياه الصرف الصحي والطين تتجمع في برك ومستنقعات آسنة، تنمو فيها الحشرات والجراثيم، وتتسرب فائض المياه المنتنة في قنوات ضيقة، لتصب في فرع النيل، لتنقل الأمراض إلى أكباد وكلى وقلوب المصريين الآخرين القاطنين على ضفاف النيل شريان الحياة؟
عندما تشاهد هذا الإهمال، لا بد أن تتساءل ما الدور الذي قام به نواب مجلس الشعب والمجالس الشعبية والمحليات في هذه الدوائر على امتداد عدة عقود؟.. أين هم الآن؟.. ولماذا لم يحاسب أحد على إهماله أو فساده منذ بضعة عقود؟
أعرف أن هذه ليست سوى حالة واحدة من مئات الحالات المتشابهة في الصعيد والدلتا، ولكن الصمت على الإهمال والتسيب نوع من المشاركة فيه، ونهيب بمؤسسات الدولة المعنية بمقاومة الفساد توجيه أكبر قدر من ميزانية الدولة إلى هذه القرى المحرومة، من حقها في الحياة الصحية الآمنة، أسوة بما توفره الدولة لأصحاب ملاعب الجولف والقرى السياحية والمدن الكبرى والمدن الجديدة من مياه الشرب النظيفة والصرف الصحي، وأن تضرب بيد من حديد على الشركات والمؤسسات الفاسدة والمهملة، وأن تفعل منظومة الرقابة والمتابعة لحماية حقوق الطبقات الأولى بالرعاية من الضعفاء والمهمشين، فهل هذا كثير على سكان القرى والأحياء الشعبية التي يسكنها بسطاء هذا
الشعب وفقراؤه؟
darrag11@yahoo.com