رئيس التحرير
عصام كامل

الإعلام.. من الوظائف السلبية إلى إعلام «جاما»


العلاقة بين الناخبين والإعلام في مصر كالعلاقة بين علامتي "الأوميجا" و"الجاما" في علم الفيزياء.. "الأوم" أو "الأوميجا" هي رمز المقاومة، و"الجاما" هي أشعة شديدة الخطورة.. أن يكون الإعلام وما يبثه رموزه شبيها بالأشعة شديدة الخطورة في معادلة خارطة الطريق، هو شيء يستحق التوقف والتأمل، وهو يعني أن الإعلام تجاوز وظائفه السلبية إلى منطقة أكثر خطورة.. إعلام "جاما" هو إعلام شديد الخطورة، وهو لا يقل تطرفًا عن الجماعات المتطرفة التي تهدد وتتوعد.


أعرف أن صورة اللجان الانتخابية في اليوم الأول من المرحلة الأولى للانتخابات ،أفقدت الكثير من الإعلاميين توازنهم، بل فقد البعض من الإعلاميين صوابهم، فتركوا الترغيب في صناعة مستقبل مصر وفضلوا إرهاب الناس بالغرامة المالية، ولم يتأثر الناخبون في اليوم الثاني، وظهرت صورة اللجان الانتخابية على حالها، إلى أن أعلنت اللجنة العليا للانتخابات أن نسبة المشاركة هي 26.5% ممن لهم حق التصويت.

الحقيقة أن هناك من أقر من الإعلاميين - ممن استعادوا ذاكرة ثورتين وممن لديهم موضوعية إعلامية - بأن هناك مشكلة تتعلق بالفجوة بين وعود وآمال المواطنين، وبين ما يحدث على الأرض من ارتفاع للأسعار، وفساد، واعترفوا أيضا بتآكل الحريات، وبأن الاتجاه السائد أن "الرئيس يعرف أكثر"، وعودة بعض أصحاب الوجوه القديمة بقوة ضمن أو خارج القائمة "الجوكر"، كانت أسبابا رئيسية وراء ضعف نسبة مشاركة الناخبين.

وبينما ظهرت على شاشات القنوات الفضائية بعض الأصوات التي تحذر من معنى عدم المشاركة - حتى أن إبراهيم عيسى لمح تارة، وأفصح تارة بأن الرسالة واضحة للرئيس بأنه فقد القدرة على الحشد، وأن لدى الناس شعورا عاما بالإحباط من الحياة السياسية - رأت أصوات كثيرة أن الاعتراف بأن الإعلام ارتكب أخطاء لن يكون في مصلحة المرحلة الحالية، وعاد الإعلام ليمارس وظائف سلبية – لا توجد إلا في الدول السطلوية - التي يمكن تلخيصها فيما يلي:-

الحشد: يتصور بعض الإعلاميين أن وظيفة الحشد ممكنة في جميع الظروف، دونما رؤية موضوعية إلى ما يحدث على أرض الواقع من ارتفاع للأسعار، وعدم وجود تحسّن ملموس في حياة الناخب العادية، وعندما يجد المواطن أن الإعلام يمارس هذه الوظيفة "دون تمييز"، يعرف أن المطلوب منه كمواطن أن يتحول إلى "شيء" يمكن تصويره ورقم يمكن عده، وأن ذلك يكفي حتى يصدق أن "الواقع" أجمل مما يظن ولكنه لا يراه.

التخفيف: من الإعلاميين من فضّل أن يكون أكثر لطفًا أو تخفيفًا للواقع، فحاول تجميل صورة المقاطعين للانتخابات، وأرجع سبب انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات إلى الخوف من أن يعيق البرلمان عمل الرئيس، وأن الناس تريد الرئيس فقط ولا تريد برلمانًا.

الصمت: عندما يصمت إعلام يملأ الدنيا ضجيجًا، يعرف الناس أن "السكوت هو علامة الرضا"، وأن هناك شيئا خطأ.. فكيف يمكن لإعلام يملأ الدنيا ضجيجًا كل يوم، أن يصمت عندما يرى قانون انتخابات يقّزم الحياة السياسية، وهو قانون رفضته معظم الأحزاب المصرية، بل أدى ببعض الأحزاب إلى مقاطعة الانتخابات؟

الأمر نفسه تكرر عندما صمت الإعلام على دعوة الرئيس لتكوين قائمة موحدة، وهي تلك الدعوة التي تلقفها بعض السياسييين لتكوين قائمة ظن الناس أن هدفها فقط تأييد الرئيس، في حين أن الإعلام يعرف أن الديمقراطية تقوم على التعدد وليس على المركزية.

التزييف: هو أن تقدم شيئًا غير صحيح على أنه صحيح، وتزييف وعي الناخب هو من أكثر الوظائف السلبية التي يمكن أن تجعل الناخب يدير ظهره للعملية الانتخابية برمتها، وقد حدث هذا عندما حاول الإعلام أن يقدم الدعوة لتعديل الدستور على أنها دعوة تصب في مصلحة مصر، رغم أن الإعلام نفسه سبق وأقنع الناس بالموافقة على الدستور وروّج له، ومعظم الإعلاميين يعرفون أنه لا يوجد حاجة حالية لتعديل الدستور، وأن الحياة البرلمانية لم تبدأ بعد حتى يمكن الحكم على المواد التي تعيق عمل الرئيس في الدستور.

التشتيت: وهو أن تطلب من المواطن أن يفعل الشيء ونقيضه، وهو ما حدث عندما قام البعض من الإعلاميين بتخويف الناخبين من تسرب السلفيين والإخوان إلى البرلمان، ثم عادوا وطالبوا الناخبين بالمشاركة بقوة في إنتاج برلمان كانوا يخوفونهم منه منذ أسابيع.

لكن لماذا أصبح الإعلام أقرب إلى الأشعة شديدة الخطورة؟.. لأن الإعلام – وباستثناءات قليلة – لم يعد يرى وظائفه السلبية.

فالإعلام الذي أعطى الشعب المصري شهادة "الأيزو" السياسية في ثورتي 25 يناير و30 يونيو، اتهم من لم يشارك من الشعب في المرحلة الأولى من الانتخابات بالسلبية.. وكما بدا واضحا للجميع، الخطاب الإعلامي جاء موتورا في اليوم الأول للمرحلة الأولى للانتخابات، بل اتهم – بشكل مباشر أو غير مباشر – الناس بالتقصير، وربما بالجهل بالمستقبل الذي ينتظرهم، ثم اكتشف الإعلاميون أنهم لا يعرفون أن الناخبين تحولوا من "كتلة" يمكن التأثير عليها وتحفيزها بعامل محفز، إلى "مقاومة" لم تعد تتأثر بثرثرتهم، ولا حتى "بأحماض" الترهيب من الغرامة التي تم سكبها على كل من اختار الجلوس في المنزل ولم يشارك في الانتخابات.

ولأن الإعلام لازال مستمرا في محاولات الحشد، قرر أن ينسب لنفسه خطأ ما حتى يمكن للناس إلقاء اللوم عليه، وهو أن الإعلام – حسب تعبير إعلامية على قناة دريم – لم يُعلم الناس بالانتخابات، ولم يقدم معلومات كافية عن العملية الانتخابية.

الحقيقة التي كشفتها الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية، أن 73% من الناخبين لم يعد لديهم ثقة في معظم الرموز الإعلامية، وأن الشعب المصري يستحق إعلامًا يتناسب وحجم ذكائه السياسي.
الجريدة الرسمية